و حملت عقائل النبوة و حرائر الوحی سبایا إلى الکوفة و معهن الأیتام، و قد ربطوا بالحبال، و حملوا على جمال بغیر وطاء، و قد عزفت أبواق الجیش، و خفقت رایاتهم، و کان منظرا رهیبا تهلع منه القلوب.
و قد وصفه مسلم الجصاص، یقول: «دعانی ابن زیاد لإصلاح دار الإمارة بالکوفة فبینما أجصص الأبواب، و إذا بالزعقات قد ارتفعت من جمیع الکوفة، فقلت لأحد خدام القصر: مالی أرى الکوفة تضج؟
الساعة یأتون برأس خارجی خرج على یزید.
من هذا الخارجی؟
الحسین بن علی.
و کان هذا النبأ کالصاعقة على رأسه، فقد أخذ یلطم على وجهه حتى خشی على عینیه أن تذهبا، و غسل یدیه من الجص، و خرج من القصر.
یقول: فبینما أنا واقف و الناس یتوقعون وصول السبایا و الرؤوس إذ أقبل أربعون جملا تحمل النساء و الأطفال، و إذا بعلی بن الحسین على بعیر بغیر غطاء، و أوداجه تشخب دما، و هو یبکی و یقول:
یا أمة السوء لا سقیا لربعکم
یا أمة لم تراعی جدنا فینا
لو أننا و رسول الله یجمعنا
یوم القیامة ما کنتم تقولونا
تسیرونا على الأقتاب عاریة
کأننا لم نشید فیکم دینا» (1)
و تحدث حذیم بن شریک الأسدی عن ذلک المنظر المؤلم یقول: «قدمت إلى الکوفة سنة (61هـ) عند مجیء علی بن الحسین من کربلاء إلى الکوفة، و معه النسوة و قد أحاطت بهم الجنود، و قد خرج الناس ینظرون إلیهم، و کانوا على جمال بغیر غطاء، فجعلت نساء أهل الکوفة یبکین و یندبن.
و رأیت علی بن الحسین قد أنهکته العلة، و فی عنقه الجامعة، و یده مغلولة إلى عنقه، و هو یقول بصوت ضعیف: «إن هؤلاء یبکون و ینوحون من أجلنا فمن قتلنا«.
و انبرت إحدى السیدات فسألت إحدى العلویات و قالت لها: من أی الأسارى أنتن؟
فأجابتها العلویة: نحن اسارى أهل البیت.
و کان هذا النبأ کالصاعقة فصرخت، و صرخت اللاتی کن معها، و دوی صراخهن فی أرجاء الکوفة، و بادرت المرأة إلى بیتها فجمعت ما فیه من ازر و مقانع فجعلت تناولها إلى العلویات لیتسترن بها عن أعین الناس.
کما بادرت سیدة اخرى فجاءت بطعام و تمر، و أخذت تلقیه على الصبیة التی أضناها الجوع.
و نادت السیدة ام کلثوم من خلف الرکب: «إن الصدقة حرام علینا أهل البیت..» (2)
و لما سمعت الصبیة التی تربت بآداب أهل البیت مقالة عمتهم رمى کل واحد ما فی یده أو ما فی فمه من الطعام، و راح یقول لمن معه: إن عمتی تقول:
»الصدقة حرام علینا أهل البیت..«.
1) بحارالأنوار: 45: 114 و 115. عوالم العلوم: 17: 373.
2) حیاة الإمام الحسین بن علیعلیهماالسلام: 3: 335.