و بزرت الفتیة من آل الرسول صلى الله علیه و آله و هی تذرف الدموع على وحدة سیدهم أبی الأحرار، و کان من بینهم القاسم بن الحسن، و کان کالقمر فی بهائه و جماله و قد رباه عمه و غذاه بمواهبه و آدابه، و أفرغ علیه أشعة من روحه حتى صار صورة عنه، و کان أحب إلیه من أبناء إخوته و أعمامه و کان القاسم یتطلع إلى محنة عمه، و ینظر إلى جیوش الکفر قد أحاطت به و قد ذابت نفسه أسى و حسرات، و جعل یردد:
لا یقتل عمی و أنا أنظر إلیه (1)
و اندفع بلهفة نحو عمه یطلب منه الإذن لیکون فداء له، فاعتنقه عمه و عیناه تفیضان دموعا، و جعل القاسم یقبل یدیه طالبا منه الإذن، فسمح له بعد إلحاحه و ترجیه، و برز القاسم إلى حومة الحرب و هو بشوق عارم إلى الشهادة، و لم یضف على جسده لامة الحرب، و إنما صحب معه سیفه، و التحم مع اولئک القرود،
فجعل یحصد رؤوسهم بسیفه، و بینما هو یقاتل إذ انقطع شسع نعله، فأنف سلیل النبوة أن تکون أحد رجلیه بلا نعل فوقف یشده متحدیا تلک الوحوش الکاسرة التی لا تساوی نعله.
و اغتنم هذه الفرصة الوغد الخبیث عمرو بن سعد الأزدی، فقال: و الله لأشدن علیه.
فأنکر علیه حمید بن مسلم، و قال له: سبحان الله! و ما ترید بذلک یکفیک هؤلاء القوم الذین ما یبقون على أحد منهم، فلم یعن به، و شد الخبیث علیه فعلاه بالسیف على رأسه الشریف، فهوى الفتى على الأرض صریعا کما تهوی النجوم و نادى رافعا صوته: یا عماه.
و ذاب قلب الإمام، و أسرع إلیه فعمد إلى القاتل الأثیم فضربه بالسیف فاتقاها بساعده فقطعها من المرفق و طرحه أرضا، فحملت خیل أهل الکوفة لاستنقاذه إلا أنه هلک تحت حوافرها، و انعطف الإمام نحو ابن أخیه فجعل یقبله، و الفتى یفحص بیدیه و رجلیه، و هو یعانی آلام الاحتضار فخاطبه الإمام:
»بعدا لقوم قتلوک، و من خصمهم یوم القیامة فیک جدک.. عز والله على عمک أن تدعوه فلا یجیبک، أو یجیبک فلا ینفعک صوت و الله کثر واتره، و الله هذا یوم کثر واتره، و قل ناصره..«.
و حمله الإمام و الفتى یفحص برجلیه کالطیر المذبوح (1) و جاء به فألقاه بجوار ولده علی الأکبر و سائر الشهداء من أهل البیت، و أخذ یطیل النظر إلیهم، و جعل یدعو على السفکة المجرمین قائلا:
»اللهم أحصهم عددا، و لا تغادر منهم أحدا، و لا تغفر لهم أبدا، صبرا یا بنی
عمومتی، صبرا یا أهل بیتی، لا رأیتم هوانا بعد هذا الیوم أبدا..«.
و کل هذه المناظر المفجعة التی تمید بالصبر و تعصف کانت بمرأى من عقیلة بنی هاشم، فکانت تستقبل فی کل لحظة فتى من الاسرة النبویة، و هو مضرج بدمائه، لها الله و لأخیها على هذه الرزایا التی تمید من هولها الجبال.
1) البستان الجامع لجمیع تواریخ أهل الزمان: 25.