و لم تبق کارثة من کوارث الدنیا و لا رزیة من رزایا الدنیا إلا جرت على حفیدة الرسول صلى الله علیه و آله و عقیلة بنی هاشم فی کربلاء، فقد أحاطت بها المصائب یتبع بعضها بعضا، فقد شاهدت أعداء الله و جیوش آل أبی سفیان قد اجتمعت على إبادة أهلها، و قد احتلوا ماء الفرات و منعوا ذریة الرسول صلى الله علیه و آله من الانتهال منه، و قد عجت أطفال أهل البیت و نساؤهم بالصراخ و العویل من شدة الظمأ و قد أحاطوا بالعقیلة یطلبون منها الماء، و هی حائرة مذهولة تأمرهم بالصبر، کیف الصبر و العطش قد مزق قلوبهم.
و قد زحفت جیوش الامویین نحو الإمام الحسین فی لیلة التاسع من المحرم، و کان سیدالشهداء جالسا أمام بیته محتبیا بسیفه إذ خفق برأسه، فسمعت اخته العقیلة أصوات الجیش قد تدانت نحو أخیها فانبرت إلیه و هی مذهولة مرعوبة فأیقظته، و قالت له:
»إن العدو قد دنا منا«.
فقال لها: «إنی رأیت رسول الله صلى الله علیه و آله فی المنام فقال: إنک تروح إلینا..«.
و کانت هذه الکلمات کالصاعقة على رأس العقیلة فقد خرقت قلبها الرقیق المعذب، فلطمت وجهها و قالت:
»یا ویلیتاه..» (1)
و کان أبوالفضل العباس إلى جانب أخیه لا یفارقه، فقال له: «یا أخی أتاک القوم..«.
و طلب منه الإمام أن یتعرف على خبرهم فقال له: «ارکب بنفسی أنت یا أخی حتى تلقاهم، فتقول لهم: ما بدا لکم، و ما تریدون..«.
و بادر قمر بنی هاشم و معه عشرون فارسا نحو القوم، و فیهم حبیب بن مظاهر و زهیر بن القین، فسألهم العباس عن زحفهم.
فقالوا له: جاء أمر الأمیر أن نعرض علیکم النزول على حکمه أو نناجزکم (2)
و قفل أبوالفضل إلى أخیه فعرفه ما عرضوه علیهم.
فقال علیه السلام له: «ارجع إلیهم فإن استطعت أن تؤخرهم إلى غدوة لعلنا نصلی لربنا هذه اللیلة و ندعوه و نستغفره، فهو یعلم أنی احب الصلاة، و تلاوة کتابه، و کثرة الدعاء و الاستغفار«.
و کان ذکر الله و الدعاء و الصلاة من أهم ما یصبو إلیه الإمام فی هذه الحیاة (3)و قفل قمر بنی هاشم راجعا إلى تلک الوحوش الکاسرة فعرض علیهم مقالة أخیه، و تردد القوم فی إجابته.
فأنکر علیهم عمرو بن الحجاج الزبیدی إحجامهم، و قال: سبحان الله! و الله لو کان من الدیلم ثم سألکم هذه المسألة لکان ینبغی أن تجیبوه!
و لم یزد ابن الحجاج على ذلک، و لم یقل إنه ابن رسول الله خوفا أن ینقل کلامه
إلى ابن مرجانة فینال العقاب و الحرمان.
و أید ابن الأشعث مقالة ابن الحجاج فقال له ابن سعد: أجبهم إلى ما سألوا فلعمری لیصبحنک بالقتال غدا.
و استجاب ابن سعد إلى تأجیل الحرب بعد أن رضیت به الأکثریة من قادة جیشه، و أوعز ابن سعد إلى رجل من أصحابه أن یعلن ذلک أمام معسکر الحسین فدنا منه و قال رافعا صوته: یا أصحاب الحسین بن علی، قد أجلناکم یومکم هذا إلى غد فإن استسلمتم و نزلتم على حکم الأمیر وجهنا بکم إلیه، و إن أبیتم ناجزناکم.
و أرجئ القتال إلى الیوم الثانی المصادف یوم العشر من المحرم.
1) الکامل فی التاریخ: 3: 384.
2) أنساب الأشراف: 184.
3) الکامل فی التاریخ: 3: 285.