و ذاب قلب الصدیقة الطاهرة زینب أسى و حسرات، و استولى علیها الألم العاصف، فقد أیقنت أنها ستشاهد فی هذه الأرض مصرع أخیها و أهل بیته، و ستجری علیها من النکبات و الخطوب ما تذوب من هولها الجبال، و قد خلدت إلى الصبر، و سلمت أمرها إلى الله تعالى.
و حینما استقر الإمام الحسین فی کربلاء جمع أهل بیته و أصحابه فألقى علیهم نظرة حنان و عطف، و رفع یدیه بالدعاء یناجی ربه، و یشکو إلیه ما ألم به من المحن و الخطوب قائلا:
»اللهم إنا عترة نبیک محمد صلى الله علیه و آله قد اخرجنا و طردنا و أزعجنا عن حرم جدنا، و تعدت بنو امیة علینا.
اللهم فخذ لنا بحقنا، و انصرنا على القوم الظالمین«.
ثم أقبل على تلک الصفوة فقال لهم:
»الناس عبید الدنیا، و الدین لعق على ألسنتهم یحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء، قل الدیانون..«.
و حکت هذه الکلمات الذهبیة واقع الناس و اتجاهاتهم فهم فی جمیع مراحل
التاریخ عبید الدنیا، أما الدین فإنما یجری على ألسنتهم فإذا محصوا بالبلاء مالوا عنه و تنکروا له.
ثم خاطب أصحابه قائلا: «أما بعد: فقد نزل بنا ما قد ترون، و ان الدنیا قد تغیرت و تنکرت، و أدبر معروفها، و لم یبق منها إلا صبابة کصبابة الإناء، و خسیس عیش کالمرعى الوبیل (1)
ألا ترون إلى الحق لا یعمل به، و إلى الباطل لا یتناهى عنه، لیرغب المؤمن فی لقاء الله، فإنی لا أرى الموت إلا سعادة، و الحیاة مع الظالمین إلا برما..» (2)
و التاعت سیدة النساء زینب حینما سمعت خطاب أخیها، و هو مصمم على الموت فقد اعتبره سعادة، و اعتبر الحیاة و العیش مع الظالمین برما.
و حینما أنهى الإمام خطابه هب أصحابه و أهل بیته، و هم یعلنون الدعم الکامل له، و یهزأون بالحیاة، و یسخرون من الموت من أجله، فشکرهم الإمام و أثنى علیهم.
1) المرعى الوبیل: هو الطعام الوخیم الذی یخاف وباله.
2) تاریخ مدینة دمشق: 14: 178.