و بعد ما أثخن مسلم بالجراح و أعیاه نزف الدم، انهارت قواه و ضعف عن المقاومة، فوقع أسیرا بأیدی اولئک الفجرة الکفار، و انتزعوا منه سیفه، و حملوه أسیرا إلى ابن مرجانة، و کان من أعظم ما رزیء به مسلم أن یدخل أسیرا على أقذر إرهابی عرفه التاریخ.
و لما دخل لم یسلم علیه بالإمرة، و إنما سلم على الجمیع، فأنکر علیه بعض خدام السلطة ذلک، فأجابه أنه لیس لی بأمیر.
فتمیز ابن مرجانة غیظا و غضبا، و قال له: سلمت أو لم تسلم فإنک مقتول.
فرد علیه مسلم بجواب أخرجه من إهابه، و جرت مناورات کلامیة بینهما، و کانت أجوبة مسلم کالسهام على ابن مرجانة، فلجأ إلى سبه و سب العترة الطاهرة و الافتراء علیهم، ثم أمر أن یصعد به الی أعلى القصر و ینفذ فیه حکم الإعدام، و قد استقبل مسلم الموت بثغر باسم، و کان یسبح الله و یستغفره و أشرف به الجلاد على موضع الحذائین فضرب عنقه، و رمى برأسه و جسده إلى الأرض، و انتهت بذلک حیاة هذا المجاهد العظیم الذی وهب حیاته لله، و استشهد دفاعا عن الحق و دفاعا عن حقوق المظلومین و المضطهدین.
ثم أمر الطاغیة السفاک بإعدام الزعیم الکبیر هانئ بن عروة، فأخرج من السجن فی وضح النهار، و جعل یستنجد باسرته و کانوا بمرأى و مسمع منه فلم یستجب له أحد منهم، و ضربه الجلاد بالسیف فلم یصنع به شیئا.
فرفع هانئ صوته قائلا: اللهم إلى رحمتک و رضوانک، اللهم اجعل هذا الیوم کفارة لذنوبی، فإنی إنما تعصبت لابن بنت نبیک محمد صلى الله علیه و آله، و ضربه الجلاد ضربة اخرى فهوى إلى الأرض، و جعل یتخبط بدمه الزاکی، و لم یلبث قلیلا حتى فارق الحیاة و قد مضى شهیدا دون مبادئه و عقیدته.
و عهد الطاغیة الجلاد إلى زبانیته بسحل جثة مسلم و هانئ فی الشوارع و الأسواق، فعمدوا إلى شد أرجلهما بالحبال و أخذوا یسحلونهما فی الطرق (1) و ذلک لنشر الخوف و الإرهاب، و لیکونا عبرةلکل من تحدثه نفسه بالخروج على
حکم یزید.
ثم قام ابن مرجانة باعتقالات واسعة لجمیع العناصر الموالیة لأهل البیت، کما أعدم جماعة منهم، و ذکرنا تفصیل ذلک فی کتابنا (حیاة الإمام الحسین علیه السلام(.
لقد سمعت حفیدة الرسول صلى الله علیه و آله السیدة زینب علیهاالسلام هذه المآسی المروعة التی جرت على ابن عمها مسلم، فکوت قلبها و أضافتها إلى همومها و مصائبها، و أیقنت أن شقیقها و بقیة أهلها سیواجهون المصیر الذی واجهه ابن عمها.
1) أنساب الأشراف 1: 155، القسم الأول.