و سار مسلم فی أزقة الکوفة و شوارعها، و مضی هائما على وجهه فی جهة کندة یلتمس دارا لیبقى فیها بقیة اللیل، و قد خلت المدینة من المارة، فقد أسرع جنده إلى دورهم، و أغلقوا علیهم الأبواب مخافة أن تعرفهم مباحث الأمن و عیون ابن زیاد فتخبر السلطة بأنه کان مع ابن عقیل فتلقی علیه القبض.
و سار مسلم و هو خائر القوى قد أحاطت به تیارات مذهلة من الهموم و الأفکار، و قد انتهى فی مسیرته إلى باب سیده یقال لها (طوعة) و هی سیدة من فی المصر رجالا و نساء و ذلک بما تملکه من شرف و نبل، و کانت ام ولد للأشعث بن قیس أعتقها فتزوجها أسید الحضرمی فولدت له ولدا یقال له بلال، و کانت طوعة تنتظره خوفا علیه من الأحداث الرهیبة، و لما رآها مسلم بادر إلیها فسلم علیها فردت علیه السلام، و قالت له: ما حاجتک؟
ـ «اسقنی ماء..«.
فبادرت المرأة إلى دارها و جاءته بالماء فشرب منه، ثم جلس.
فارتابت منه، و قالت له: ألم تشرب الماء؟
ـ «بلى«.
اذهب إلى أهلک إن مجلسک مجلس ریبة.. (1)
و سکت مسلم فأعادت علیه القول و هو ساکت فلم یجبها.
فذعرت منه و قالت له: سبحان الله.. إنی لا احل لک الجلوس على باب داری.
و لما حرمت علیه الجلوس لم یجد بدا من الانصراف عنها، فقال بصوت خافت حزین النبرات: «لیس لی فی هذا المصر منزل و لا عشیرة، فهل لک فی أجر و معروف، و لعلی مکافئک بعد هذا الیوم..«.
و شعرت المرأة بأن الرجل غریب و أنه على شأن کبیر یستطیع أن یجازیها على معروفها و إحسانها فقالت له: و ما ذاک؟
ـ «أنا مسلم بن عقیل کذبنی القوم و غرونی..«.
فدهشت المرأة و قالت له: أنت مسلم!!
ـ «نعم..» (2)
و انبرت السیدة بکل خضوع و تقدیر فسمحت لضیفها الکبیر بالدخول إلى دارها و قد حازت الشرف و الفخر، و عرضت علیه الطعام فأبى أن یأکل، فقد مزق الأسى قلبه، و تمثلت أمامه الأحداث الرهیبة التی سیواجهها، و کان أهم ما شغل فکره کتابه إلى الإمام الحسین بالقدوم إلى الکوفة.
و لم یمض قلیل من الوقت حتى جاء بلال ابن السیدة طوعة فرأى امه تکثر الدخول و الخروج إلى البیت الذی فیه مسلم فاستراب من ذلک، فسألها عنه فلم تجبه.
فألح علیها فأخبرته بالأمر بعد أن أخذت علیه العهود و المواثیق بکتمان الأمر، و طارت نفس الخبیث فرحا و سرورا، و قد أنفق لیله ساهرا یترقب طلوع الشمس لیخبر السلطة بمقام مسلم عندهم، و قد تنکر هذا الوغد الخبیث للأخلاق العربیة التی تلزم بقرى الضیف و حمایته من کل سوء، ولکن هذا القزم على غرار أهل الکوفة الذین طلقوا المعروف ثلاثا، راح مسرعا و قد ملک الفرح فؤاده نحو قصر الإمارة، و کان بحالة من الارتباک تلفت النظر.
فلما دخل القصر بادر عبدالرحمن بن محمد بن الأشعث، و هو من أخبث اسرة عرفها التاریخ، فأعلمه بمکان مسلم، فأمره بالسکوت لئلا یفشى بالخبر فینقله غیره إلى ابن مرجانة فتفوت جائزته، و أسرع عبدالرحمن إلى أبیه محمد بن الأشعث فأخبره بالأمر.
و فطن ابن زیاد إلى خطورة الأمر فالتفت إلى ابن الأشعث فقال له: ما قال لک عبدالرحمن؟
ـ أصلح الله الأمیر البشارة العظمى.
ـ ما ذاک مثلک من بشر بخیر.
ـ إن ابنی هذا یخبرنی أن مسلم بن عقیل فی دار طوعة.
و فرح ابن مرجانة و تمت بوارق آماله و أحلامه، فراح یمد ابن الأشعث بالمال و الجاه قائلا: قم فآتنی به، و لک ما أردت من الجائزة و الحظ الأوفى.
لقد تمکن ابن مرجانة سلیل البغایا و الأدعیاء من الظفر بفخر هاشم و مجد عدنان لیجعله قربانا إلى امویته اللصیقة.
1) تهذیب التهذیب: 1: 151.
2) الکامل فی التاریخ: 3: 272.