و فی صبیحة الیوم الذی وارى فیه الإمام الحسن علیه السلام جثمان أبیه انبرى إلی جامع
الکوفة یحف به أخوته و سائر بنی هاشم، و قد اکتظ الجامع بمعظم قطعات الجیش وقادة الفرق و الوجوه و الأشراف، فاعتلى المنبر فابتدأ خطابه بتأبین أبیه عملاق الفکر الإسلامی، و کان تأبینه منسجما تمام الانسجام مع سمو شخصیة أبیه، فقد وصفه بأبلغ و أروع ما یکون الوصف وصفه بهذه الکلمات الذهبیة:
»لقد قبض فی هذه اللیلة رجل لم یسبقه الأولون بعمل و لم یدرکه الآخرون بعمل..«.
و معنى ذلک أن أباه نسخة فریدة لا مثیل لها فی تأریخ الإنسانیة فی جمیع الأزمان و الآباد، فإن من المحقق أنه لیس فی میدان الاصلاح الاجتماعی و السیاسی زعیم کالإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فی نزاهته و تجرده من جمیع النزعات المادیة، فقد تقلد زمام الحکم و کان معظم الشرق خاضعا لحکمه، و کانت الأموال تجبى له کالسیل، فلم یؤثر نفسه و أهله بشیء منها، و لم یخلف صفراء و لا بیضاء سوى سبعمائة درهم کان قد ادخرها من راتبه لیشتری بها عبدا یستعین به أهله فی حاجاتهم إلا أنه عدل عن ذلک، و أمر ولده الحسن بإرجاعها إلى بیت المال، کما أعلن ذلک الإمام الحسن فی خطابه استمعوا له، قال علیه السلام:
»و ما خلف صفراء و لا بیضاء إلا سبعمائة درهم فضلت من عطائه أراد أن یبتاع بها خادما لأهله، و قد أمرنی أن أردها إلى بیت المال..«.
و کان ذلک حقا هو منتهى السمو و العظمة، و منتهى التجرد عن الدنیا و الزهد فی جمیع مظاهرها و ملاذها.
و لما أنهى الإمام الحسن علیه السلام خطابه الرائع بایعه الجمهور و کانوا أصنافا و هم:
1ـ قادة الفرق و الزعماء، و هؤلاء کان معظمهم مع معاویة فقد استمالهم بأمواله و ذهبه، و وعدهم بالمناصب العالیة إن انضموا إلیه.
2ـ الخوارج، و هم من ألد أعدائه و أعداء أبیه، و کانوا یکیدون له فی وضع النهار و غلس اللیل.
3ـ المؤمنون من شیعته ممن عرفوا حقه، و دانوا له بالولاء و الطاعة، و هم قلة قلیلة.
و على أی حال فقد علم معاویة ما منی به جیش الإمام الحسن من الضعف و الانحلال و التمرد على قیادته، فکتب إلى الإمام یستنجزه الحرب، و زحف بجیوشه الذین تسودهم الطاعة و الإخلاص له، فانتهى إلى المدائن فعسکر فیها، و لما اذیع ذلک سرت أوبئة الرعب و الخوف فی نفوس جیش الإمام، و قد دعاهم إلى مناجزة معاویة، فلم یستجب له سوى بعض المؤمنین من أصحابه، و جعل یستحث الناس على الخروج لحرب معاویة، و بعد جهد شاق خرج معه أخلاط من الناس ـ على حد تعبیر الشیخ المفید ـ متباینون فی أفکارهم و میولهم، و أخذوا یجدون فی السیر لا یلوون على شیء حتى انتهوا إلى المدائن فعسکروا فیها.