و طافت موجات قاسیة من الآلام و الأحزان ببضعة الرسول وودیعته، فقد استغرق الأسى قلبها الرقیق المعذب و غشیتها سحب قاتمة من اللوعة و الحزن على فقد أبیها الذی کان عندها أعز من الحیاة، و کانت تزور بلهفة جسده الطاهر فتطوف حوله و هی ذاهلة اللب منهدة الکیان فتلقی بنفسها علیه، و تأخذ حفنة من ترابه الطاهر فتضعه على عینیها، و هی تبکی أمر البکاء و أقساه، و تقول:
ماذا عـلى من شم تربة أحمد
أن لا یشم مدى الزمان غوالیا
صبت على مصائب لو أنها
صبت علی الأیام صرن لیالیا
قل للمغیب تحت أطباق الثرى
إن کنت تسمع صرختی و ندائیا
قد کنت ذات حمى بظل محمد
لا أخش من ضیم و کان جمالیا
فالیوم أخشع للذلیـل و أتقى
ضـیمی و أدفع ظالمی بردائیا
فإذا بکت قمریة فی لیلها
شجنا على غصن بکیت صباحیا
فلأجعلن الحزن بعدک مـونسی
و لأجعلن الدمع فیک وشاحیا (1)
و حکت هذه الأبیات ما عانته زهراء الرسول من لوعة و شجون على فراق أبیها الذی استوعب حبه عواطفها و مشاعرها، و قد بلغ من عظیم حزنها علیه أنه لو صبت مصائبها على الأیام لخلعت ضیاءها و لبست السواد القاتم.
کما صورت هذه الأبیات الرقیقة مدى عزتها و عظیم مکانتها فی أیام أبیها سید الکائنات، فقد کانت من أعز و أمنع نساء المسلمین، ولکنها بعد فقد أبیها تنکر لها أصحابه، و أجمعوا على هضمها و الغض من شأنها حتى صارت تخضع للذلیل، و تتقی الظالمین لها بردائها، إذ لیس عندها قوة تحمیها و لم تکن تأوی إلى رکن شدید.
و قد خلدت بضعة الرسول صلى الله علیه و آله و ودیعته إلى الأسى و الحزن، و قد وجدت فی البکاء راحة نفسیة لها، و بلغ من عظیم وجدها على أبیها أن أنس بن مالک استأذن علیها لیعزیها بمصاب أبیها، و کان ممن وسد رسول الله صلى الله علیه و آله فی مثواه الأخیر فقالت له: «هذا أنس بن مالک؟«.
ـ نعم، یا بنت رسول الله.
فانبرت و هی تلفظ قطعا من قلبها المذاب قائلة:
»کیف طابت نفوسکم أن تحثوا التراب على رسول الله صلى الله علیه و آله؟» (2)
و غرق أنس فی البکاء، و انصرف و قد نخب الأسى فؤاده. و بلغ من عظیم حزن الصدیقة على أبیها أنها کانت تطالب الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام أن یریها القمیص الذی غسل فیه أبوها رسول الله صلى الله علیه و آله، فإذا جاء به إلیها تأخذه بلهفة و توسعه تقبیلا وشما لأنها تجد فیه رائحة أبیها الذی غاب فی مثواه.
و خلدت زهراء الرسول إلى البکاء فی وضح النهار و فی غلس اللیل، و ظل شبح
أبیها یطاردها فی کل فترة من حیاتها القصیرة الأمد، و کانت ابنتها الصدیقة الطاهرة زینب فی حزن بهیم تنظر إلى امها و قد أشرفت على الموت من کثرة البکاء على أبیها فکانت تشارکها فی أحزانها و آلامها و لوعتها.
و ثقل على أتباع أبی بکر بکاء الصدیقة على أبیها فشکوا ذلک إلى الإمام أمیرالمؤمنین، و طلبوا منه أن یجعل لبکائها وقتا خاصا، فعرض الإمام علیها ذلک فأجابته، فکانت فی نهارها تمضی إلى خارج المدینة و تصحب معها ولدیها الحسن و الحسین و زینب فتجلس تحت شجرة من الأراک، و تأخذ باللوعة و البکاء على أبیها طیلة النهار فإذا أوشکت الشمس أن تغرب قفلت مع أبنائها إلى الدار، و عمد القوم إلى تلک الشجرة فقلعوها فکانت تبکی فی حر الشمس، فسارع الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فبنى لها بیتا سماه (بیت الأحزان(، و ظل هذا البیت رمزا لأساها و غضبها على القوم على مر العصور.
و یقول الرواة إن الإمام قائم آل محمد علیه السلام قال فی هذا البیت:
أم ترانی اتخذت لا وعلاها
بعد بیت الأحزان بیت سرور
و کانت بضعة رسول الله و حبیبته مع أطفالها یمکثون طیلة النهار فی ذلک البیت الحزین، و هی تناجی أباها و تندبه و تبکیه، فإذا جاء اللیل أقبل الإمام علیه السلام فأرجعها مع أطفالها إلى الدار.
و استولى الحزن على بضعة الرسول و ذاب جسمها، و قد فتکت بها الأمراض فلازمت فراشها، و لم تتمکن من النهوض و القیام، و کانت ابنتها العقیلة إلى جانبها تقوم بخدماتها و رعایتها، و بادرت السیدات من نساء المسلمین إلى عیادتها فقلن لها: «کیف أصبحت من علتک یا بنت رسول الله؟«.
فرمقتهن بطرفها و أجابتهن بصوت خافت مشفوع بالأسى و الحسرات قائلة:
»أجدنی کارهة لدنیاکن، مسرورة لفراقکن، ألقى الله و رسوله بحسرات، فما حفظ لی الحق، و لا رعیت منی الذمة، و لا قبلت الوصیة، و لا عرفت الحرمة..» (3)
أجل لم یحفظ حقها، و لم ترع ذمتها، فقد أصر القوم على هضمها و التنکر لها، و انصرفن النسوة و قد غامت عیونهن بالدموع، و عرضن على أزواجهن کلمات زهراء الرسول و غضبها علیهم، و قد عرفوا مدى تقصیرهم فی حقها.. و هرعت بعض امهات المؤمنین إلى عیادتها فقلن لها: یا بنت رسول الله، صیری لنا فی حضور غسلک حظا.
فلم تجبهن إلى ذلک، و قالت: «لا حاجة لی فی حضورکن» (4)
1) مناقب آل أبی طالب: 2: 131.
2) سنن ابن ماجة: 18. المواهب اللدنیة: 2: 381.
3) تاریخ الیعقوبی: 2: 95.
4) تاریخ الیعقوبی: 1: 446.