و تربت عقیلة بنی هاشم فی بیت الدعوة إلى الله تعالى، ذلک البیت الذی کان فیه مهبط الوحی و التنزیل، و منه انطلقت کلمة التوحید و امتدت أشعتها المشرقة على جمیع شعوب العالم و امم الأرض، و کان ذلک أهم المعطیات لرسالة جدها العظیم.
لقد تغذت حفیدة الرسول بجوهر الإیمان و واقع الإسلام، و انطبع حب الله تعالى فی عواطفها و مشاعرها حتى صار ذلک من مقوماتها و ذاتیاتها، و قد أحاطت بها المحن و الخطوب منذ نعومة أظفارها، و تجرعت أقسى و أمر ألوان المصائب، کل ذلک من أجل رفع کلمة الله عالیة خفاقة.
إن الإیمان الوثیق بالله تعالى و الانقطاع الکامل إلیه کانا من ذاتیات الاسرة النبویة
و من أبرز خصائصهم، ألم یقل سید العترة الطاهرة الإمام أمیرالمؤمنین فی دعائه:
»عبدتک لا طمعا فی جنتک، و لا خوفا من نارک، ولکنی وجدتک أهلا للعبادة فعبدتک«.
و هو القائل: «لو کشف لی الغطاء ما ازددت یقینا«.
أما سید شباب أهل الجنة الإمام الحسین علیه السلام، فقد أخلص لله تعالى کأعظم ما یکون الإخلاص، و ذاب فی محبته و قد قدم نفسه و الکواکب المشرقة من أبنائه و أخوته و أبناء عمومته قرابین خالصة لوجه الله، و قد طافت به المصائب و الأزمات التی یذوب من هولها الجبال، و امتحن بما لم یمتحن به أحد من أنبیاء الله و أولیائه، کل ذلک فی سبیل الله تعالى، فقد رأى أهل بیته و أصحابه الممجدین صرعى، و نظر إلى حرائر النبوة و عقائل الوحی، و هن بحالة تمید من هولها الجبال، و قد أحاطت به أرجاس البشریة و هم یوسعونه ضربا بالسیوف و طعنا بالرماح، لیتقربوا بقتله إلى سیدهم ابن مرجانة.
لقد قال و هو بتلک الحالة کلمته الخالدة، قال: «لک العتبى یا رب إن کان یرضیک هذا، فهذا إلى رضاک قلیل«.
و لما ذبح ولده الرضیع بین یدیه، قال: «هون ما نزل بی أنه بعین الله» (1)
أرأیتم هذا الإیمان الذی لا حدود له!
أرأیتم هذا الانقطاع و التبتل إلى الله!
و کانت حفیدة الرسول زینب سلام الله علیها کأبیها و أخیها فی عظیم إیمانها و انقطاعها إلى الله، فقد وقفت على جثمان شقیقها الذی مزقته سیوف الشرک، هو جثة هامدة بلا رأس، فرمقت السماء بطرفها، و قالت کلمتها الخالدة التی دارت
مع الفلک و ارتسمت فیه: «اللهم تقبل منا هذا القربان» (2)
إن الإنسانیة تنحنی إجلالا و خضوعا أمام هذا الإیمان الذی هو السر فی خلودها و خلود أخیها.
لقد تضرعت بطلة الإسلام بخشوع إلى الله تعالى أن یتقبل ذلک القربان العظیم الذی هو ریحانة رسول الله صلى الله علیه و آله.
فأی إیمان یماثل هذا الإیمان؟!
و أی تبتل إلى الله تعالى یضارع هذا التبتل؟!
لقد أظهرت حفیدة الرسول بهذه الکلمات الخالدة معانی الوراثة النبویة، و أظهرت الواقع الإسلامی و أنارت السبیل أمام کل مصلح اجتماعی، و أن کل تضحیة تؤدى للامة یجب أن تکون خالصة لوجه الله غیر مشفوعة بأی غرض من أغراض الدنیا.
و من عظیم إیمانها الذی یبهر العقول، و یحیر الألباب أنها أدت صلاة الشکر إلى الله تعالى لیلة الحادی عشر من المحرم على ما وفق أخاها و وفقها لخدمة الإسلام و رفع کلمة الله.
لقد أدت الشکر فی أقسى لیلة و أفجعها، و التی لم تمر مثلها على أی أحد من بنی الإنسان، فقد أحاطت بها المآسی التی تذوب من هولها الجبال، فالجثث الزواکی من أبناء الرسول و أصحابهم أمامها لا مغسلین و لا مکفنین، و خیام العلویات قد أحرقها الطغاة اللئام، و سلبوا ما على بنات رسول الله صلى الله علیه و آله من حلی و ما عندهن من أمتعة و هن یعجن بالبکاء لا یعرفن ماذا یجری علیهن من الأسر و الذل إلى غیر ذلک من المآسی التی أحاطت بحفیدة الرسول صلى الله علیه و آله و هی تؤدی صلاة الشکر لله
تعالی على هذه النعمة التی أضفاها علیها و على أخیها.
تدول الدول و تفنى الحضارات و هذا الإیمان العلوی أحق بالبقاء، و أجدر بالخلود من هذا الکوکب الذی نعیش فیه.
1) حیاة الإمام الحسین بن علی علیهماالسلام: 3: 276.
2) مقتل الحسین علیه السلام / المقرم: 396.