لو أردنا أن نسلط الضوء علی دور الحوراء زینب و مواقفها و کلماتها خلال أحداث واقعة کربلاء الألیمة سوف یتجلی للباحث أنها اختارت دورها فی هذه الثورة العظیمة بوعی سابق و ادراک عمیق، و أنها کانت المبادرة للمشارکة فی مختلف المواقف و الوقائع الکربلائیة، و أن التاریخ یؤکد أنها هی التی قررت و أرادت الخروج مع أخیها الامام الحسین (علیه السلام) فی ثورته مع أنها من الناحیة الدینیة و الاجتماعیة فی عهدة زوجها عبدالله بن جعفر الذی کان مکفوف البصر، کما کانت ربة منزلها و القائمة بشؤون أبنائها، و کل ذلک کان یمنع التحاقها برکب أخیها الحسین (علیه السلام(، و لکنها قررت تجاوز کل تکل العوائق و استأذنت زوجها فی الخروج، فأذن لها بذلک، و لأن سفر الامام کان محفوفا بالمخاطر فقد أقترح علیه شیوخ بنی هاشم أن لا یصطحب معه أحد من النساء و العیال، و لکن الحوراء زینب کانت بالمرصاد لمثل هذه المقترحات التی تحول بینها و بین المشارکة فی المسیرة المقدسة.
فهذا عبدالله بن عباس و بعد أن عجز عن أقناع الحسین (علیه السلام) بالعودة عن قرار الخروج الی الثورة یناقشه فی حمل النساء و العیال معه قائلا: ان کنت سائرا فلا تسر بنسائک و صبیتک، فانی خائف أن تقتل کما قتل عثمان و نساؤه و ولده ینظرون الیه، و هنا قامت الحوراء زینب بالاعتراض علی أبن عباس قائلة: یا أبن عباس تشیر علی شیخنا و سیدنا أن یخلفنا ها هنا و یمضی وحده، لا و الله بل نحیا معه و نموت معه و هل أبقی الزمان لنا غیره؟
و کما أن أصل اشتراکها فی الثورة کان بقرارها الواعی فان أغلب مبادی الثورة کانت تنبثق من
مبادراتها الشجاعة، فهی التی تهرع نحو أخیها الحسین (علیه السلام) حینما تدلهم المصائب و لخطوب لتشارکه المواجهة، و ی فی یوم عاشوراء تتحدی الآلام و لظروف العصبیة لتمارس دورها البطولی العظیم، مع أن بعض ما أصابها یکفیها عذرا للانشغال بأحزانها و لا بتعاد عن ساحة المعرکة.
ثم من کان یتوقع من مثلها خطابها الناری فی مجلس یزید بن معاویة؟ کانت ظروف السبی و لأسر و طبیعة الخدر لدی السیدات و الحوراء زینب و أجواء الشماتة و العداء المحیطة بها فی الکوفة و الشام؛ یکفی دافعا للانکفاء علی الذات و معالجة الهموم و الحزن، لکن العقیلة زینب تسامت علی کل ذلک و امتلکت زمام المبادرة مسیطرة علی کل ما حولها من ظروف و أوضاع، و کانت تنظر الی ما واجهته من آلام و مآس بایجابیة و اطمئنان و تعتبره ابتلاء و امتحان الهیا لا بدلها من النجاح فیه، بل أنها و فی أشد المواقف و أفظعها تتضرع الی الله شاکرة حامدة آلاءه و نعمه معلنة تقبلها لقضاء الله و استعداد ها لتحمل أکثر من ذلک فی سبیله.
و حین استشهاد أخیها الامام الحسین (علیه السلام) بعد استشهاد کل رجالات بیتها و أنصارهم خرجت الحوراء زینب تعدو نحو ساحة المعرکة تبحث عن جسد أخیها الامام عابئة بصفوف الجیش الأموی المدجج بالسلاح، فلما وقفت علی جثمان أخیها الذی مزقته السیوف، جعلت تطیل النظر الیه ثم رفعت بصرها نحو السماء و هی تدعو بحرارة و لهفة: «اللهم تقبل منا هذا القربان«(1)
و مثل هذا الموقف یکفی المرأة المسلمة فخرا و اعتزازا؛ لأن فقید الحوراء لیس کغیره ممن فقدته النساء، و لم تکن مصیبته کغیرها من المصائب و هو الامام و الأخ و الحبیب، فأی عقیدة هذه التی دفعت الحوراء الی هذا الفداء، و الحوراء أنثی لها ما لدی کل أنثی من رقة عاطفة و مشاعر حساسة، ثم هی أخت و قد فقدت فی فقد أخیها رکنها الرکین و حصنها الأمین و ریحانة أبویها و جدها العظیم، ثم هی أیضا مسلمة و قد شاهدت قوی الظلم تبغی علی الحق و تردی بضعة النبوة و الرسالة، و مع کل هذا تقف علی جثمان أخیها لتقول: اللهم تقبل منا هذا القربان.
فلا أعتقد بأن للحوراء زینب من نظیر بصبرها علی مضض الألم، تحملت فی کربلاء ما لا تتحمله الجبال الرواسی «حتی عرفت ببطلة الصبر«(2)
1) حیاة الامام الحسین (علیه السلام(، ج 2، ص 301.
2) موسوعة عاشوراء، ص 225.