قَالَ الرَّاوِی:
… ثُمَّ وَضَعَ رَأْسَ الْحُسَیْنِ ع بَیْنَ یَدَیْهِ وَ أَجْلَسَ النِّسَاءَ خَلْفَهُ لِئَلَّا یَنْظُرُونَ إِلَیْهِ فَرَآهُ عَلِیُّ بْنُ الْحُسَیْنِ ع فَلَمْ یَأْکُلِ الرُّءُوسَ بَعْدَ ذَلِکَ أَبَداً وَ أَمَّا زَیْنَبُ فَإِنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ أَهْوَتْ إِلَى جَیْبِهَا فَشَقَّتْهُ ثُمَّ نَادَتْ بِصَوْتٍ حَزِینٍ یُفْزِعُ الْقُلُوبَ:
«یَا حُسَیْنَاهْ! یَا حَبِیبَ رَسُولِ اللَّهِ! یَا ابْنَ مَکَّةَ وَ مِنًى! یَا ابْنَ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ سَیِّدَةِ النِّسَاءِ! یَا ابْنَ بِنْتِ الْمُصْطَفَى!»
فَأَبْکَتْ وَ اللَّهِ کُلَّ مَنْ کَانَ فِی الْمَجْلِسِ وَ یَزِیدُ عَلَیْهِ لَعَائِنُ اللَّهِ سَاکِتٌ.
ثُمَّ جَعَلَت امْرَأَةٌ مِنْ بَنِی هَاشِمٍ کَانَتْ فِی دَارِ یَزِیدَ لَعَنَهُ اللَّهُ تَنْدُبُ عَلَى الْحُسَیْنِ ع وَ تُنَادِی: یَا حَبِیبَاهْ! یَا سَیِّدَ أَهْلِ بَیْتَاهْ! یَا ابْنَ مُحَمَّدَاهْ! یَا رَبِیعَ الْأَرَامِلِ وَ الْیَتَامَى! یَا قَتِیلَ أَوْلَادِ الْأَدْعِیَاءِ!
فَأَبْکَتْ کُلَّ مَنْ سَمِعَهَا. ثُمَّ دَعَا یَزِیدُ عَلَیْهِ اللَّعْنَةُ بِقَضِیبِ خَیْزُرَانٍ فَجَعَلَ یَنْکُتُ بِهِ ثَنَایَا الْحُسَیْنِ ع.
فَأَقْبَلَ عَلَیْهِ أَبُو بَرْزَةَ الْأَسْلَمِیُّ وَ قَالَ: وَیْحَکَ یَا یَزِیدُ أَ تَنْکُتُ بِقَضِیبِکَ ثَغْرَ الْحُسَیْنِ ع ابْنِ فَاطِمَةَ ص أَشْهَدُ لَقَدْ رَأَیْتُ النَّبِیَّ ص یَرْشُفُ ثَنَایَاهُ وَ ثَنَایَا أَخِیهِ الْحَسَنِ ع وَ یَقُولُ أَنْتُمَا سَیِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَتَلَ اللَّهُ قَاتِلَکُمَا وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِیراً!
فَغَضِبَ یَزِیدُ وَ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ فَأُخْرِجَ سَحْباً. قَالَ وَ جَعَلَ یَزِیدُ یَتَمَثَّلُ بِأَبْیَاتِ ابْنِ الزِّبَعْرَى:
«لَیْتَ أَشْیَاخِی بِبَدْرٍ شَهِدُوا
جَزِعَ الْخَزْرَجُ مِنْ وَقْعِ الْأَسَلِ
لَأَهَلُّوا وَ اسْتَهَلُّوا فَرَحاً
ثُمَّ قَالُوا یَا یَزِیدُ لَا تُشَلَ
قَدْ قَتَلْنَا الْقَوْمَ مِنْ سَادَاتِهِمْ
وَ عَدَلْنَاهُ بِبَدْرٍ فَاعْتَدَلَ
لَعِبَتْ هَاشِمٌ بِالْمُلْکِ فَلَا
خَبَرٌ جَاءَ وَ لَا وَحْیٌ نَزَلَ
لَسْتُ مِنْ خِنْدِفَ إِنْ لَمْ أَنْتَقِمْ
مِنْ بَنِی أَحْمَدَ مَا کَانَ فَعَل.»
فَقَامَتْ زَیْنَبُ بِنْتُ عَلِیِّ بْنِ أَبِی طَالِبٍ علیه السلام فَقَالَتْ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ وَ صَلَّى اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَ آلِهِ أَجْمَعِینَ صَدَقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ کَذَلِکَ یَقُول:
«ثُمَّ کانَ عاقِبَةَ الَّذِینَ أَساؤُا السُّواى أَنْ کَذَّبُوا بِآیاتِ اللَّهِ وَ کانُوا بِها یَسْتَهْزِؤُن» (1)
أَ ظَنَنْتَ یَا یَزِیدُ حَیْثُ أَخَذْتَ عَلَیْنَا أَقْطَارَ الْأَرْضِ وَ آفَاقَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ کَمَا تُسَاقُ الْأُسَرَاءُ أَنَّ بِنَا هَوَاناً عَلَیْهِ وَ بِکَ عَلَیْهِ کَرَامَةً وَ أَنَّ ذَلِکَ لِعِظَمِ خَطَرِکَ عِنْدَهُ فَشَمَخْتَ بِأَنْفِکَ وَ نَظَرْتَ فِی عِطْفِکَ جَذْلَانَ مَسْرُوراً حَیْثُ رَأَیْتَ الدُّنْیَا لَکَ مُسْتَوْثِقَةً وَ الْأُمُورَ مُتَّسِقَةً وَ حِینَ صَفَا لَکَ مُلْکُنَا وَ سُلْطَانُنَا فَمَهْلًا مَهْلًا أَ نَسِیتَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: «وَ لا یَحْسَبَنَّ الَّذِینَ کَفَرُوا أَنَّما نُمْلِی لَهُمْ خَیْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِی لَهُمْ لِیَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِین.» (2)
أَ مِنَ الْعَدْلِ یَا ابْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِیرُکَ حَرَائِرَکَ وَ إِمَاءَکَ وَ سَوْقُکَ بَنَاتِ رَسُولِ اللَّهِ ص سَبَایَا قَدْ هَتَکْتَ سُتُورَهُنَّ وَ أَبْدَیْتَ وُجُوهَهُنَّ تَحْدُو بِهِنَّ الْأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَ یَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَاهِلِ وَ الْمَنَاقِلِ وَ یَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِیبُ وَ الْبَعِیدُ وَ الدَّنِیُّ وَ الشَّرِیفُ لَیْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالِهِنَّ وَلِیٌّ وَ لَا مِنْ حُمَاتِهِنَّ حَمِیٌّ وَ کَیْفَ یُرْتَجَى مُرَاقَبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَکْبَادَ الْأَزْکِیَاءِ وَ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ دِمَاءِ الشُّهَدَاءِ وَ کَیْفَ یَسْتَبْطِئُ فِی بُغْضِنَا أَهْلَ الْبَیْتِ مَنْ نَظَرَ إِلَیْنَا بِالشَّنَفِ وَ الشَّنَئَانِ وَ الْإِحَنِ وَ الْأَضْغَانِ ثُمَّ تَقُولُ غَیْرَ مُتَأَثِّمٍ وَ لَا مُسْتَعْظِم – لَأَهَلُّوا وَ اسْتَهَلُّوا فَرَحاً ثُمَّ قَالُوا یَا یَزِیدُ لَا تُشَل- مُنْتَحِیاً عَلَى ثَنَایَا أَبِی عَبْدِ اللَّهِ سَیِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَنْکُتُهَا بِمِخْصَرَتِکَ وَ کَیْفَ لَا تَقُولُ ذَلِکَ وَ قَدْ نَکَأْتَ الْقَرْحَةَ وَ اسْتَأْصَلْتَ الشَّافَةَ بِإِرَاقَتِکَ دِمَاءَ ذُرِّیَّةِ مُحَمَّدٍ ص وَ نُجُومِ الْأَرْضِ مِنْ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ تَهْتِفُ بِأَشْیَاخِکَ زَعَمْتَ أَنَّکَ تُنَادِیهِمْ فَلَتَرِدَنَّ وَشِیکاً مَوْرِدَهُمْ وَ لَتَوَدَّنَّ أَنَّکَ شَلَلْتَ وَ بَکِمْتَ وَ لَمْ تَکُنْ قُلْتَ مَا قُلْتَ وَ فَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ اللَّهُمَّ خُذْ لَنَا بِحَقِّنَا وَ انْتَقِمْ مِنْ ظَالِمِنَا وَ أَحْلِلْ غَضَبَکَ بِمَنْ سَفَکَ دِمَاءَنَا وَ قَتَلَ حُمَاتَنَا فَوَ اللَّهِ مَا فَرَیْتَ إِلَّا جِلْدَکَ وَ لَا حَزَزْتَ إِلَّا لَحْمَکَ وَ لَتَرِدَنَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ص بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْکِ دِمَاءِ ذُرِّیَّتِهِ وَ انْتَهَکْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِی عِتْرَتِهِ وَ لُحْمَتِهِ حَیْثُ یَجْمَعُ اللَّهُ شَمْلَهُمْ وَ یَلُمُّ شَعَثَهُمْ وَ یَأْخُذُ بِحَقِّهِمْ «وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِینَ قُتِلُوا فِی سَبِیلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْیاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ یُرْزَقُون» (3)
وَ حَسْبُکَ بِاللَّهِ حَاکِماً وَ بِمُحَمَّدٍ ص خَصِیماً وَ بِجَبْرَئِیلَ ظَهِیراً وَ سَیَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ لَکَ وَ مَکَّنَکَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِینَ بِئْسَ لِلظَّالِمِینَ بَدَلًا وَ أَیُّکُمْ شَرٌّ مَکاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً وَ لَئِنْ جَرَّتْ عَلَیَّ الدَّوَاهِی مُخَاطَبَتَکَ إِنِّی لَأَسْتَصْغِرُ قَدْرَکَ وَ أَسْتَعْظِمُ تَقْرِیعَکَ وَ أَسْتَکْثِرُ تَوْبِیخَکَ لَکِنَّ الْعُیُونَ عبْرَى وَ الصُّدُورَ حَرَّى أَلَا فَالْعَجَبُ کُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللَّهِ النُّجَبَاءِ بِحِزْبِ الشَّیْطَانِ الطُّلَقَاءِ فَهَذِهِ الْأَیْدِی تَنْطِفُ مِنْ دِمَائِنَا وَ الْأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا وَ تِلْکَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاکِی تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ وَ تُعَفِّرُهَا أُمَّهَاتُ الْفَرَاعِلِ وَ لَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدَنَّا وَشِیکاً مَغْرَماً حِینَ لَا تَجِدُ إِلَّا مَا قَدَّمَتْ یَدَاکَ وَ ما رَبُّکَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِیدِ فَإِلَى اللَّهِ الْمُشْتَکَى وَ عَلَیْهِ الْمُعَوَّلُ فَکِدْ کَیْدَکَ وَ اسْعَ سَعْیَکَ وَ نَاصِبْ جُهْدَکَ فَوَ اللَّهِ لَا تَمْحُو ذِکْرَنَا وَ لَا تُمِیتُ وَحْیَنَا وَ لَا تُدْرِکُ أَمَدَنَا وَ لَا تَرْحَضُ عَنْکَ عَارَهَا وَ هَلْ رَأْیُکَ إِلَّا فَنَدٌ وَ أَیَّامُکَ إِلَّا عَدَدٌ وَ جَمْعُکَ إِلَّا بَدَدٌ یَوْمَ یُنَادِی الْمُنَادِی أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِینَ فَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِینَ الَّذِی خَتَمَ لِأَوَّلِنَا بِالسَّعَادَةِ وَ الْمَغْفِرَةِ وَ لِآخِرِنَا بِالشَّهَادَةِ وَ الرَّحْمَةِ وَ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ یُکْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ وَ یُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِیدَ وَ یُحْسِنَ عَلَیْنَا الْخِلَافَةَ إِنَّهُ رَحِیمٌ وَدُودٌ وَ حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَکِیلُ.
فَقَالَ یَزِیدُ لَعَنَهُ اللَّهُ:
«یَا صَیْحَةً تُحْمَدُ مِنْ صَوَائِحِ
مَا أَهْوَنَ النَّوْحَ عَلَى النَّوَائِح.» (4)
1) سوره روم، آیه 10.
2) سوره آل عمران، آیه 178.
3) سوره آل عمران، آیه169.
4) لهوف، ابن طاووس، ترجمه فهرى، ص178-186.