جمحت الفرس… رمحت… ارتفع صهیلها عالیا یملأ الآفاق… لقد عانق الفارس الذی دوخ القبائل… عانق الأرض… توسد رمال الصحراء… أفناه الظمأ… و أعیاه نزف الدم، و الفرات یجری متلویا تتدافع أمواجه کأنه بطون الحیات.
جالت الفرس.. حمحمت وهی تقترب منه. راحت تمرغ ناصیتها بالدماء الثائرة.. تلون ذرات الرمل الملتهبة بلون الشفق الحزین.
هتف رجل من القبائل… رجل أسکرته نشوة القتل:
ـ دونکم الفرس. انها من جیاد خیل النبی.
مثل دوامة ما لها من قرار، دارت الخیل حولها الفرس تقاتل بضراوة.. تدفع عنها غائلة القبائل، کما لو أن روح السبط قد سکنت
أعماقها.
أما هو فقد توقف لیستریح فوق رمال کربلاء.
ما لها القبائل تشتعل حقدا.. تضطرم غیظا.. تتفجر فی أعماقها شهوة الثأر.
ثارت الرمال تحت حوافر الخیل، و عجزت الذئاب من کبح جماح فرس ثائرة کان صاحبها قد التوی به السرج، فانسربت روحه الدافئة تلتقط أنفاسها من بین ذرات الارض…
صرخ الرجل الذی یحلم بکنوز الری و جرجان:
ـ دعوها لننظر ما تصنع.
انحسرت عنها الخیل.. نظرت الی الافق البعید، ثم لوت رأسها باتجاه آخر الاسباط.
ما یزال غافیا فوق الرمال ینوء بنفسه.. قلبه ینزف دما؛ و دماء القلب ترسم طریقها فوق الأرض نهرا صغیرا یکاد سنا نوره یضیء التاریخ.
خفت زعیق القبائل… و تقدمت الفرس نحو سبط النبی.. شمته.. ملأت رئتیها من عبیر النبوات.. أطلقت صهیلا مدویا و هی ترکل الأرض.. تریدها أن تستیقظ.. أن تهتز، و تتزلزل تحت أقدام الذین اغتالوا الحریة و طعنوا السلام.
انطلقت الفرس نحو خیام قافلة عصفت بها الریح من کل مکان. کانت ما تزال تصهل عالیا.. ما تزال کلماتها تتردد فی سماء التاریخ.
ـ الظلیمة الظلیمة من أمة قتلت ابن بنت نبیها.
لقد انتهی کل شیء، و مرت العاصفة الهوجاء.. ملأت الرمال دماء و دموعا.. و الفرات ما یزال یجری.. تتدافع أمواجه نحو البحر البعید.
یممت الفرس وجهها شطر الفرات المسافر فی مجاهل الصحراء.. اقتحمت أمواجه المتدافعة، و غمرتها الأمواج، و کان الحصی المتناثر فوق الشواطیء یصغی لأنین خافت یشبه حمحمة فرس حزینة.
و تألقت فی أعماق النهر مآذن و قباب و قوافل مسافرة.
هناک فی القیعان الخفیة تسطع النجوم، و یغفو القمر بسلام، و یمتزج الصهیل الکربلائی مع المیاه المتدافعة صوب البحر.
و تغفو الفراس فی أحضان الطین المعطور بعد یوم عصیب.
و فی المساء، عندما بدا نخیل الشواطیء کأهداب حوریة شهیدة، فقد الفرات مذاقه العذب، فاذا هو أجاج یلفظه الظمآن کما لو کان مترعا بملح الصحراء.
و عندما مرت الغیوم، شاهد بعضهم غیمة بیضاء تشبه فرسا مجنحة تشق طریقها فی الفضاء الأزرق.. ترسم الأجیال طریق الحریة.