و کان علی الأکبر شبیه جده رسول الله صلى الله علیه و آله فی ملامحه و فی أخلاقه التی امتاز بها على سائر النبیین، و کانت الاسرة النبویة و الصحابة إذا اشتاقوا إلى رؤیة رسول الله صلى الله علیه و آله نظروا إلى وجه علی الأکبر، و کان دنیا من الفضائل و المواهب و العبقریات، فقد تسلح بکل فضیلة و أدب، و کان أعز أبناء الإمام الحسین لعمته العقیلة و سائر بنی عمومته و أعمامه، و هو أول هاشمی اندفع بحماس بالغ إلى الحرب، و کان عمره الشریف ثمانی عشر سنة (1)، و قد وقف أمام أبیه طالبا منه الرخصة لمناجزة أعداء الله، فلما رآه الإمام ذابت نفسه أسى و حسرات، و أشرف على الاحتضار فقد رأی فلذة کبده قد ساق نفسه إلى الموت.
فرفع الإمام شیبته الکریمة نحو السماء، و هو یقول بنبرات قد لفظ فیها شظایا
قلبه: «اللهم اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز إلیهم غلام أشبه الناس برسولک محمد صلى الله علیه و آله خلقا و خلقا و منطقا، و کنا إذا اشتقنا إلى رؤیة نبیک نظرنا إلیه..
أللهم امنعهم برکات الأرض، و فرقهم تفریقا، و مزقهم تمزیقا، و اجعلهم طرائق قددا، و لا ترض الولاة عنهم أبدا، فإنهم دعونا لینصرونا ثم عدوا علینا یقاتلوننا..«.
و التفت الإمام إلى المجرم الأثیم عمر بن سعد عبد ابن مرجانة، فصاح به:
»ما لک قطع الله رحمک، و لا بارک لک فی أمرک، و سلط علیک من یذبحک بعدی على فراشک، کما قطعت رحمی، و لم تحفظ قرابتی من رسول الله صلى الله علیه و آله، و تلا قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهیم و آل عمران على العالمین- ذریة بعضها من بعض و الله سمیع علیم) (2)«.
و شیع الإمام ولده بدموع مشفوعة بالأسى و الحزن، و خلفه عمته العقیلة و سائر عقائل الوحی، و قد علا منهن الصراخ و العویل على شبیه رسول الله صلى الله علیه و آله.
و انطلق فخر هاشم إلى ساحة الحرب، و قد امتلأ قلبه حزما و عزما، و وجهه الشریف یتألق نورا، فقد حکى بهیبته هیبة جده رسوله الله صلى الله علیه و آله، و بشجاعته شجاعة جده الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، و توسط حراب الأعداء و سیوفهم و هو یرتجز قائلا:
أنا علی بن الحسین بن علی
نحن و رب البیت أولى بالنبی
تالله لا یحکم فینا ابن الدعی
أنت یا شرف هذه الامة أولى بالنبی و أحق بمقامه من هؤلاء الأدعیاء الذین
سلطتهم علیکم الطغمة الحاکمة من قریش التی أبت أن تجتمع الخلافة و النبوة فیکم.
و التحم علی الأکبر مع أعداء الله، و قد ملأ قلوبهم خوفا و رعبا، و أبدى من البسالة و الشجاعة ما یقصر عنه کل وصف، فقد ذکرهم ببطولات جده الإمام أمیرالمؤمنین، و محطم أوثان القرشیین، و قد قتل مائة و عشرین فارسا سوى المجروحین.
و ألح علیه العطش و أضر به، فقفل راجعا إلى أبیه یشکو ظمأه القاتل قائلا: «یا أبت، العطش قد قتلنی، و ثقل الحدید قد أجهدنی، فهل إلی شربه ماء من سبیل أتقوى بها على الأعداء؟» (3)
و التاع الإمام، فقال له بصوت خافت، و عیناه تفیضان دموعا: «واغوثاه ما أسرع الملتقى بجدک فیسقیک بکأسه شربة لا تظمأ بعدها أبدأ«.
و أخذ لسانه فمصه لیریه شدة عطشه فکان کشقة مبرد من شدة العطش.
یقول الحجة الشیخ عبدالحسین صادق فی رائعته:
یشکو لخیر أب ظمأه و ما اشتکى
ظمأ الحشا إلا إلى الظامی الصدی
کل حشاشته کصالیة الغضا
و لسانه ظمئ کشقة مبرد
فانصاع یؤثره علیه بریقه
لو کان ثمة ریقه لم یجمد
لقد کان هذا المنظر الرهیب لعلی الأکبر من أفجع و أقسى ما رزئ به ابو الأحرار، فقد رأى ولده الذی هو من أنبل و اشرف ما خلق الله، و هو فی غضارة العمر و ریعان الشباب قد أشرف على الهلاک من شدة العطش، و هو لم یستطع أن یسعفه بجرعة
ماء لیروی عطشه.
و قفل فخر الإسلام علی الأکبر راجعا إلى حومة الحرب، قد فتکت الجراح بجسمه، وفتت العطش فؤاده، و جعل یقاتل أشد ما یکون القتال و أعنفه حتى ضج العسکر من کثرة من قتل منهم.
و لما رأى ذلک الوضر الخبیث مرة بن منقذ العبدی قال: علی آثام العرب إن لم أثکل أباه، و أسرع الخبیث الدنس إلى شبیه رسول الله صلى الله علیه و آله فطعنه بالرمح فی ظهره و ضربه ضربة منکرة على رأسه، ففلق هامته، و اعتنق فرسه یظن أنه یرجعه إلى أبیه إلا أن الفرس حمله إلى معسکر الأعداء فأحاطوا به من کل جانب، و مزقوا جسده الشریف بالسیوف، و نادى فخر هاشم و مجد عدنان رافعا صوته:
»علیک منی السلام أبا عبدالله، هذا جدی رسول الله صلى الله علیه و آله قد سقانی بکأسه شربة لا أظمأ بعدها أبدا، و هو یقول: إن لک کأسا مذخورة..«
و حمل الأثیر هذه الکلمات إلى أبیه الثاکل الحزین فقطعت قلبه و مزقت أحشاءه، ففزع إلیه و هو خائر القوى منهد الرکن، فانکب علیه فوضع خده على خده، و هو جثة هامدة قد قطعت شلوه السیوف إربا إربا، و أخذ الإمام یذرف أحر الدموع على ولده الذی لا یشابهه أحد فی کمال فضله، و جعل یلفظ شظایا قلبه بهذه الکلمات:
»قتل الله قوما قتلوک یا بنی، ما أجرأهم على الله و على انتهاک حرمة الرسول، على الدنیا بعدک العفا..» (4)
و ما کاد الخبر یبلغ الخیام حتى هرعت حفیدة الرسول صلى الله علیه و آله زینب من خدرها، و کان ذلک أول ما خرجت إلى المعرکة فأکبت بنفسها على ابن أخیها الذی کان أعز
ما عندها من أبنائها و جعلت تضمخه بدموعها، و قد انهارت قواها، و انبرى إلیها الإمام و جعل یعزیها بمصابها الألیم، و هو یردد هذه الکلمات:
»على الدنیا بعدک العفا«.
و أخذ الإمام بید اخته وردها إلى الفسطاط، و أمر فتیانه بحمل ولده إلى الفسطاط.
لقد کان علی بن الحسین الرائد و الزعیم لکل حر شریف مات أبیا على الضیم فی دنیا الإباء، فسلام الله علیه غادیة و رائحة و نودعه بالأسى و الحزن، و نردد کلمات أبیه: «على الدنیا بعدک العفا..«.
1) الفتوح: 5: 114. مقتل الحسین علیه السلام / الخوارزمی: 2: 30. و قیل: کان عمره سبعا و عشرین سنة، حسبما ذکره المقرم فی مقتل الحسین علیه السلام: 318. و یقال: ابن خمس و عشرین سنة: مناقب آل أبی طالب: 4: 109.
2) آل عمران 3: 33 و 34.
3) بحارالأنوار: 45: 43. الدمعة الساکبة: 4: 330. الفتوح: 5: 114 و 115. مقتل الحسین علیه السلام / الخوارزمی: 2: 31.
4) العفا: التراب.