جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

خطاب العقیلة

زمان مطالعه: 4 دقیقه

و أظهر الطاغیة الآثم فرحته الکبرى بإبادته لعترة رسول الله صلى الله علیه و آله فقد صفا له

الملک، و استوسقت له الامور، و أخذ یهز أعطافه جذلانا متمنیا حضور القتلى من أهل بیته ببدر لیریهم کیف أخذ بثأرهم من النبی صلى الله علیه و آله فی ذریته، وراح یترنم بأبیات ابن الزبعری قائلا أمام الملأ بصوت یسمعه الجمیع:

لیت أشیاخی ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا و استهلوا فرحا

ثم قالوا: یا یزید لا تشل

قد قتلنا القوم من ساداتهم

و عدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملک فلا

خبر جاء و لا وحی نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بنی أحمد ما کان فعل

و لما سمعت العقیلة هذه الأبیات التی أظهر فیها التشفی بقتل عترة رسول الله صلى الله علیه و آله انتقاما منهم لقتلى بدر، و ثبت کالأسد، فسحقت جبروته و طغیانه فکأنها هی الحاکمة و المنتصرة و الطاغیة هو المخذول و المغلوب على أمره، و قد خطبت هذه الخطبة التی هی من متممات النهضة الحسینیة، قالت علیهاالسلام:

»ألحمد لله رب العالمین، و صلى الله على محمد و آله أجمعین، صدق الله کذلک یقول: (ثم کان عاقبة الذین أساءوا السوءى‏ أن کذبوا بآیات الله و کانوا بها یستهزئون) (1)، أظننت ـ یا یزید ـ حیث أخذت علینا أقطار الأرض و آفاق السماء فأصبحنا نساق کما تساق الإماء ـ أن بنا على الله هوانا، و بک علیه کرامة!! و أن ذلک لعظیم خطرک عنده!! فشمخت بأنفک و نظرت فی عطفک، جذلان مسرورا، حین رأیت الدنیا لک مستوسقة، و الأمور متسقة، و حین صفا لک ملکنا و سلطاننا، فمهلا

مهلا، أنسیت قول الله عزوجل: (و لا یحسبن الذین کفروا أنما نملی‏ لهم خیر لأنفسهم إنما نملی‏ لهم لیزدادوا إثما و لهم عذاب مهین) (2)

أمن العدل یابن الطلقاء تخدیرک حرائرک و إماءک و سوقک بنات رسول الله سبایا؟! قد هتکت ستورهن، و أبدیت وجوههن، تحدو بهن الأعداء من بلد إلى بلد، و یستشرفهن أهل المنازل و المناهل (3)، و یتصفح وجوههن القریب و البعید، و الدنی و الشریف، لیس معهن من رجالهن ولی، و لا من حماتهن حمی.

و کیف ترتجى مراقبة من لفظ فوه أکباد الأزکیاء، و نبت لحمه بدماء الشهداء؟!

و کیف لا یستبطئ فی بغضنا أهل البیت من نظر إلینا بالشنف (4) و الشنآن والإحن و الأضغان؟! ثم تقول غیر متأثم و لا مستعظم:

لأهلوا و استهلوا فرحا

ثم قالوا: یا یزید لا تشل

منحنیا على ثنایا أبی عبدالله علیه السلام سید شباب أهل الجنة تنکتها بمخصرتک.

و کیف لا تقول ذلک، و قد نکأت القرحة، و استأصلت الشأفة، بإراقتک دماء ذریة محمد صلى الله علیه و آله و نجوم الأرض من آل عبدالمطلب؟! و تهتف بأشیاخک، زعمت أنک تنادیهم! فلتردن وشیکا موردهم، و لتودن أنک شللت و بکمت و لم تکن قلت ما قلت و فعلت ما فعلت. أللهم خذ بحقنا، و انتقم ممن ظلمنا، و احلل غضبک بمن سفک دماءنا و قتل حماتنا.

فوالله ما فریت إلا جلدک، و لا حززت إلا لحمک، و لتردن على رسول الله صلى الله علیه و آله بما تحملت من سفک دماء ذریته، و انتهکت من حرمته فی عترته و لحمته، و حیث یجمع الله شملهم و یلم شعثهم و یأخذ بحقهم (و لا تحسبن الذین قتلوا فی‏ سبیل الله أمواتا بل أحیاء عند ربهم یرزقون) (5)

و حسبک بالله حاکما، و بمحمد صلى الله علیه و آله خصیما، و بجبرئیل ظهیرا، و سیعلم من سول لک و مکنک من رقاب المسلمین، بئس للظالمین بدلا و أیکم شر مکانا و أضعف جندا.

و لئن جرت علی الدواهی مخاطبتک، إنی لأستصغر قدرک، و أستعظم تقریعک، و أستکثر توبیخک، لکن العیون عبرى، و الصدور حرى.

ألا فالعجب کل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشیطان الطلقاء، فهذه الأیدی تنطف (6)من دمائنا، و الأفواه تتحلب من لحومنا، و تلک الجثث الطواهر الزواکی تنتابها العواسل (7) و تعفرها أمهات الفراعل (8)، و لئن اتخذتنا مغنما لتجدنا و شیکا مغرما، حین لا تجد إلا ما قدمت یداک، و ما ربک بظلام للعبید، فإلى الله المشتکى، و علیه المعول.

فکد کیدک، واسع سعیک، و ناصب جهدک، فوالله لا تمحون ذکرنا، و لا تمیت وحینا، و لا تدرک أمدنا، و لا ترحض عنک عارها.

و هل رأیک إلا فند، و أیامک إلا عدد، و جمعک إلا بدد، یوم ینادی المناد: ألا لعنة

الله على الظالمین.

فالحمد لله الذی ختم لأولنا بالسعادة و المغفرة، و لآخرنا بالشهادة و الرحمة.

و نسأل الله أن یکمل لهم الثواب، و یوجب لهم المزید، و یحسن علینا الخلافة، إنه رحیم ودود، و حسبنا الله و نعم الوکیل (9)

و هذا الخطاب من متممات النهضة الحسینیة، و من روائع الخطب الثوریة فی الإسلام، فقد دمرت فیه عقیلة بنی هاشم و فخر النساء جبروت الاموی الظالم یزید، و ألحقت به و بمن مکنه من رقاب المسلمین العار و الخزی، و عرفته عظمة الاسرة النبویة التی لا تنحنی جباهها أمام الطغاة و الظالمین.

و علق الإمام الشیخ محمد حسین آل کاشف الغطاء على هذا الخطاب بقوله: «أتستطیع ریشة أعظم مصور، و أبدع ممثل أن یمثل لک حال یزید و شموخه بأنفه، و زهوه بعطفه و سروره و جذله باتساق الامور، و انتظام الملک و لذة الفتح و الظفر و التشفی و الانتقام بأحسن من ذلک التصویر و التمثیل، و هل فی القدرة و الإمکان لأحد أن یدفع خصمه بالحجة و البیان و التقریع و التأنیب، و یبلغ ما بلغته سلام الله علیها بتلک الکلمات، و هی على الحال الذی عرفت، ثم لم تقتنع منه بذلک، حتى أرادت أن تمثل له و للحاضرین عنده ذلة الباطل، و عزة الحق و عدم الإکتراث و اللامبالاة بالقوة و السلطة و الهیبة و الرهبة، أرادت أن تعرفه خسة طبعه، وضعة مقداره، و شناعة فعله، و لؤم فرعه و أصله» (10)

و یقول المرحوم الفکیکی: «تأمل معی فی هذه الخطبة الناریة کیف جمعت بین

فنون البلاغة، و أسالیب الفصاحة، و براعة البیان، و بین معانی الحماسة، و قوة الاحتجاج، و حجة المعارضة، و الدفاع فی سبیل الحریة و الحق و العقیدة، بصراحة هی أنفذ من السیوف إلى أعماق القلوب، و أحد من وقع الأسنة فی الحشا، و المهج فی مواطن القتال، و مجالات النزال، و کان الوثوب على أنیاب الأفاعی، و رکوب أطراف الرماح أهون على یزید من سماع هذا الاحتجاج الصارخ الذی صرخت به ربیبة المجد و الشرف فی وجوه طواغیت بنی امیة و فراعنتهم فی منازل عزهم و مجالس دولتهم الهرقلیة الارستقراطیة الکریهة، ثم ان هذه الخطبة التاریخیة القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة و جرأتها النادرة، و قد احتوت النفس القویة الحساسة الشاعرة بالمثالیة الأخلاقیة الرفیعة السامیة، و سیبقى هذا الأدب الحی صارخا فی وجوه الطغاة الظالمین على مدى الدهر و تعاقب الأجیال و فی کل ذکرى لواقعة الطف الدامیة المفجعة» (11)


1) الروم 30: 10.

2) آل عمران 3: 178.

3) المناهل: جمع منهل، و هو موضع الشرب من العیون، و المراد من یسکن فیها. المعاقل: سکنة الحصون.

4) الشنف: البغض و العداء.

5) آل عمران 3: 163.

6) تنطف: أی تستوفی من دمائنا.

7) العواسل: جمع عاسل، و هو الذئب.

8) الفراعل: جمع فرعل، و هو ولد الضبع.

9) أعلام النساء: 2: 504. بلاغات النساء: 21. حیاة الإمام الحسین بن علی علیهماالسلام: 3: 378ـ 380.

10) السیاسة الحسینیة:30.

11) مجلة الغری ـ السنة السابعة: العدد 6.