و یجمع المؤرخون على أن عائشة فی طلیعة من أشعل نار الثورة على عثمان، فقد أفتت بقتله و مروقه من الدین، و کانت تسمیة نعثلا، و لما أحاط به الثوار خرجت إلى مکة، و بعد أدائها لمناسک الحج قفلت راجعة إلى یثرب، و هی تجد فی السیر لتنظر ما آل إلیه أمر عثمان، فلما انتهت إلى سرف لقیها رجل من أخوالها
کان قادما من المدینة، فأسرعت قائلة: «مهیم..» (1)
ـ قتلوا عثمان…
و أسرعت قائلة: «ثم صنعوا ماذا؟«.
ـ و اجتمعوا على بیعة علی فجازت بهم إلى خیر مجاز.
و لما سمعت أن الخلافة قد آلت إلى الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام انهارت أعصابها و تحطمت قواها، و هتفت و هی حانقة، و بصرها یشیر إلى السماء ثم ینخفض فیشیر إلى الأرض قائلة: «و الله لیت هذه انطبقت على هذه، إن تم الأمر لابن أبی طالب، قتل عثمان مظلوما، و الله لأطلبن بدمه…«.
و بهر عبید من منطقها، فقال لها باستهزاء و سخریة: «و لم؟ فوالله إن أول من أمال حرفه لأنت، و لقد کنت تقولین: اقتلوا نعثلا فقد کفر!!«.
و انبرت عائشة تبرر هذا التناقض فی کلامها و سلوکها، فقالت له: «إنهم استتابوه ثم قتلوه، و قد قلت و قالوا، و قولی الأخیر خیر من قولی الأول«.
و هی حجة واهیة لا واقع لها، فهل أنها کانت حاضرة حینما أحاط الثوار بعثمان فأعلن لهم توبته فلم یحفلوا بها، و عدوا علیه فقتلوه، کما تقول و لم یخف على ابن خالها هذا التناقض الصریح فی قولها، فراح یرد علیها:
منک البداء و منک الغـیـر
و منک الریاح و منک المطر
و أنت أمرت بـقـتل الإمام
و قلـت لنا إنه قد کفر
فهبنا (2) أطعناک فی قتله
و قاتله عندنا من أمـر
و لم یسقط السـقف من فـوقنا
و لم یـنکسف شمسنا و القمر
و قد بایع الناس ذو تـدرء (3)
یزیل الشبا و یقیم الصعر
و یلبـس للحرب أثوابـها
و ما من وفى مثل من قدغدر
و غاظها قوله فأعرضت عنه، و قفلت راجعة إلى مکة (4) و هی کئیبة حزینة؛ لأن الخلافة آلت إلى باب مدینة علم النبی صلى الله علیه و آله و أبی سبطیه.
و راحت تندب عثمان، فقد اتخذت قتله ورقة رابحة للإطاحة بحکم الإمام. یقول شوقی:
أثأر عثمان الذی شجاها
أم غصة لم یـنتزع شجاها
ذلک فتق لم یکن بالبال
کید النساء موهن الجبال
إن دم عثمان لا یصلح بأی حال من الأحوال أن یکون من بواعث ثورتها على حکومة الإمام، فقد کانت هناک أسباب وثیقة دعتها إلى هذا الموقف الذی لا تحمد علیه، و قد ذکرناها بالتفصیل فی کتابنا (حیاة الإمام الحسن(.
1) مهیم: کلمة استفهام من معانیها ما وراءک.
2) فی روایة: «و نحن«.
3) ذو تدرء: أی ذو عزیمة و منعة. الشبا: المکروه. الصعر: میل فی الوجه أو فی أحد الشفتین، و المراد أنه یقیم الشیء الملتوی.
4) تاریخ الامم و الملوک: 3: 454، و غیره.