جستجو
این کادر جستجو را ببندید.

الى جنة المأوى (1)

زمان مطالعه: 5 دقیقه

و ذوت بضعة الرسول صلى الله علیه و آله کما تذوی الأزهار، و مشى إلیها الموت سریعا و هی فی شبابها الغض الأهاب، و بدت لها طلائع الرحیل عن هذه الحیاة التی استهانت بها، و طلبت حضور ابن عمها أمیرالمؤمنین علیه السلام، فعهدت إلیه بوصیتها، و أهم ما فیها:

1ـ أن یواری جثمانها المقدس فی غلس اللیل البهیم.

2ـ أن لا یحضر جنازتها أحد من الذین هضموها و ظلموها فإنهم أعداؤها و أعداء أبیها على حد تعبیرها.

3ـ أن یعفی موضع قبرها و یخفیه لیکون رمزا لغضبها على القوم غیر قابل للتأویل و التصحیح على مر الأجیال الصاعدة. و ضمن لها الإمام جمیع ما عهدت به

إلیه، و انصرف عنها و هو غارق فی الأسى و الشجون.

و طلبت بضعة الرسول صلى الله علیه و آله من أسماء بنت عمیس أن یصنع لها سریر یواری جسدها الطاهر، فقد کانت العادة بوضع الأموات على لوحة تبدو فیها أجسامهم، و کرهت ذلک سیدة النساء، فعملت لها أسماء سریرا یستر من فیه کانت قد رأته حینما کانت فی الحبشة، فلما نظرت إلیه ابتسمت و هی أول ابتسامة شوهدت لها منذ أن لحق أبوها بالرفیق الأعلى (1)

و فی آخر یوم من حیاة الصدیقة أصبحت و قد ظهر علیها بعض التحسن، و بدا علیها الفرح و السرور فقد علمت أن هذا الیوم هو خاتمة حیاتها و فیه تلتحق بأبیها الذی هو عندها أعز من الحیاة.

و عمدت الصدیقة إلى أطفالها فغسلتهم و صنعت لهم من الطعام ما یکفیهم یومهم، ثم أمرت ولدیها الحسن و الحسین أن یخرجا لزیارة قبر جدهما و لا یشاهدا وفاتها، و ألقت علیهما و على بنتها زینب نظرة الوداع و قلبها الزاکی یذوب ألما و حزنا، و خرج الحسنان و قد هاما فی تیارات من الهواجس و أحسا ببوادر مخیفة أغرقتهما بالهموم و الأحزان.

و التفتت ودیعة النبی صلى الله علیه و آله إلى أسماء بنت عمیس، و کانت تتولى تمریضها و خدمتها، فقالت لها: «یا اماه«.

ـ نعم یا حبیبة رسول الله.

ـ «اسکبی لی غسلا«.

فسارعت أسماء و أتتها بالماء فاغتسلت فیه، و قالت لها: «ایتینی بثیابی الجدد«.

فأحضرتها لها، و قالت لها: «اجعلی فراشی فی وسط البیت«.

و ذعرت أسماء، و علمت أن الموت قد دنا من ودیعة النبی، و صنعت لها ما أرادت فاضطجعت فی فراشها، و استقبلت القبلة و نادت أسماء قائلة بصوت خافت: «یا اماه، إنی مقبوضة الآن، و قد تطهرت فلا یکشفنی أحد«.

و أخذت تتلو آیات من القرآن الکریم حتى صعدت روحها الطاهرة إلى الله تحفها ملائکة الرحمن، و یستقبلها أبوها الذی کرهت الحیاة من بعده.

لقد سمت تلک الروح إلى جنان الخلد فأشرقت الآخرة بقدومها، و أظلمت الأرض لفقدها، فما أضلت سماء الدنیا مثلها فی قداستها و طهرها، و قد انقطع بموتها آخر من کان فی الدنیا من نسل رسول الله صلى الله علیه و آله، و کانت زینب إلى جانب امها و قد رأتها جثة هامدة قد انقطعت عنها الحیاة فذابت أسى، و عجت بالبکاء و العویل.

و قفل الحسنان من مسجد رسول الله صلى الله علیه و آله إلى الدار فلم یجدا امهما فیها فبادرا یسألان أسماء قائلین: «أین امنا؟«.

فأجابتهما و هی غارقة فی البکاء قائلة: یا سیدی، إن امکما قد ماتت فأخبرا بذلک أباکما.

و کانت هذه المفاجأة کالصاعقة فهرعا إلى جثمان امهما، فوقع علیها الحسن و هو یقول: «یا اماه، کلمینی قبل أن تفارق روحی بدنی..«.

و ألقى الحسین بنفسه و هو یعج بالبکاء قائلا: «یا اماه، أنا ابنک الحسین کلمینی قبل أن ینصدع قلبی..«.

و أخذت أسماء توسعهما تقبیلا و تواسیهما بمصابهما الألیم، و طلبت منهما أن یخبرا أباهما بموت سیدة النساء و سارعا نحو مسجد رسول الله صلى الله علیه و آله، و قد علا صوتهما بالبکاء فاستقبلهما المسلمون قائلین: ما یبکیکما یا بنی رسول الله، لعلکما

نظرتما قبر جدکما فبکیتما.

فأجابا: «أولیس قد ماتت امنا فاطمة!«.

و هز النبأ المؤلم مشاعرهم، فقد ندموا على تقصیرهم تجاه بضعة الرسول الله صلى الله علیه و آله، فقد ماتت و هی ساخطة علیهم لأنهم لم یحفظوا مکانتها من رسول الله صلى الله علیه و آله.

و لما علم الإمام بموت الصدیقة تصدع قلبه وود مفارقة الحیاة، و رفع صوته قائلا: «بمن العزاء یا بنت محمد، کنت بک أتعزى، ففیم العزاء من بعدک..«.

و خف مسرعا نحو البیت و هو یذرف أحر الدموع، و ألقى نظرة على جثمان حبیبة رسول الله صلى الله علیه و آله و هو یقول:

لکل اجتماع من خلیلین فرقة

و کل الذی دون الفراق قلیل

و إن افتقادی فاطما بعد أحمد

دلیل على أن لا یدوم خلیل

و کانت العقیلة زینب إلى جانبه أمها و هی تعج بالبکاء قد ذاب قلبها فقد فقدت جمیع آمالها، و لیس شیء أوجع على الطفل من فراق امه.

و هرع الناس من کل صوب نحو بیت الإمام، و قد ساد فیهم وجوم رهیب، و عهد الإمام إلى سلمان الفارسی أن یخبر الجماهیر بأن مواراة جثمان بضعة الرسول قد اجل هذه العشیة فقفلوا إلى منازلهم.

و أقبلت عائشة و هی ترید الدخول إلى بیت الإمام لتشاهد جثمان حبیبة رسول الله صلى الله علیه و آله فحجبتها أسماء و منعتها من الدخول قائلة: «قد عهدت إلی أن لا یدخل علیها أحد» (2)

و لما مضى شطر من اللیل قام الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام فغسل الجسد الطاهر،

و معه الحسنان و أسماء و زینب و هی تنظر إلى جثمان امها و قد نخب الحزن قلبها، و تبکی علیها کأقسى و أمر ما یکون البکاء.

و بعد الفراغ من الغسل أدرجها فی أکفانها، و دعا بأطفالها الذین لم ینتهلوا من حنان امهم لیلقوا علیها نظرة الوداع، فألقوا بأنفسهم على جثمان امهم و هم یوسعونها تقبیلا و قد مادت الأرض من کثرة صراخهم و بکائهم، و بعد انتهائهم من الوداع عقد الإمام علیها الرداء.

و لما حل الهزیع الأخیر من اللیل قام فصلى على الجسد الطیب، و عهد إلى من کان معه من خلص صحابة رسول الله صلى الله علیه و آله أمثال سلمان الفارسی و بنی هاشم فحملوا الجثمان المقدس إلى مثواه الأخیر، و أودعها فی قبرها، و أهال علیها التراب، و عفى موضع قبرها لیکون دلیلا حاسما على غضبها و نقمتها على من غصب حقها، و وقف الإمام الثاکل الحزین على حافة القبر و هو یروی ثراه بدموع عینیه، و قد طافت به موجات من الحزن و الألم القاسی، فأخذ یؤبن زهراء الرسول بهذه الکلمات التی تحکی لوعته و أساه على هذا الرزء القاصم و قد وجه خطابه إلى رسول الله صلى الله علیه و آله یعزیه قائلا:

»السلام علیک یا رسول الله عنی، و عن ابنتک النازلة فی جوارک، السریعة اللحاق بک. قل یا رسول الله عن صفیتک صبری، ورق عنها تجلدی، إلا أن فی التأسی بعظیم فرقتک، و فادح مصیبتک، موضع تعز، فلقد وسدتک فی ملحودة قبرک، و فاضت بین نحری و صدری نفسک «إنا لله و إنا إلیه راجعون«.

لقد استرجعت الودیعة، و أخذت الرهینة! أما حزنی فسرمد، و أما لیلی فمسهد إلى أن یختار الله لی دارک التی أنت بها مقیم. و ستنبئک ابنتک بتظافر امتک على هضمها، فأحفها السؤال، و استخبرها الحال؛ هذا و لم یطل العهد، و لم یخل منک الذکر،

و السلام علیکما سلام مودع، لا قال و لا سئم، فإن أنصرف فلا عن ملالة، و إن اقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرین..» (3)

و حکت هذه الکلمات الحزن العمیق و الألم الممض الذی فی نفس الإمام، فقد أعلن شکواه إلى رسول الله صلى الله علیه و آله على ما منیت به حبیبته من الخطوب و النکبات، و یطلب منه أن یلح فی السؤال منها لتخبره بما جرى علیها من الظلم فی الفترة القصیرة التی عاشتها بعده.

کما أعلن الإمام عن أساه و شجاه على فقده لبضعة الرسول، فهو فی حزن دائم و لیل مسهد، لا تنطفئ عنه نار اللوعة علیها حتى یلتحق إلى جوار الله، و إنه إذ ینصرف عن قبرها المقدس فلیس ذلک عن سأم و لا عن ملالة و کراهیة، ولکن استجابة لتعالیم الإسلام الآمرة بالخلود إلى الصبر، و لولا ذلک لأقام عنده و لا یریم عنه.

و عاد الإمام إلى داره بعد أن وارى جثمان سیدة نساء العالمین فی مثواها الأخیر، و قد نخب الحزن فؤاده ینظر إلى أطفاله و هم یبکون امهم أمر البکاء و أشجاه خصوصا العقیلة زینب فکانت تندب امها بذوب روحها تبکی علیها صباحا و مساء قد خلدت إلى الأسى و الحزن.

لقد قطعت عقیلة بنی هاشم دور طفولتها الحزینة و قد طافت بها الآلام القاسیة و الرزایا الموجعة، فقد فقدت جدها رسول الله صلى الله علیه و آله الذی کان یفیض علیها بعطفه و حنانه، و لم تمض بعد وفاته إلا أیام یسیرة حتى فقدت امها الرؤوم التی عاشت فی هذه الدنیا و عمرها کعمر الزهور، و فاجأها الموت و هی فی شبابها الغض الأهاب، فقد صبت علیها الکوارث و المصائب، و التی کان من أقساها جحد القوم لحقها

و إجماعهم على هضمها و هی ابنة نبیهم الذی بر بدینهم و دنیاهم.

لقد وعت حفیدة الرسول صلى الله علیه و آله و هی فی سنها الباکر الأهداف الأساسیة التی دعت القوم إلى هضم امها و جحد حقوقها و إقصاء أبیها عن قیادة الامة، کل ذلک طمعا بالحکم و الظفر بالامرة و السلطان.


1) المستدرک علی الصحیحین: 3: 162.

2) مناقب آل أبی طالب: 3: 365.

3) نهج البلاغة/ محمد عبده: 2: 207.