و ندب ابن مرجانة لحرب مسلم، عمرو بن حریث المخزومی صاحب شرطته و محمد بن الأشعث، و ضم إلیهما ثلثمائه رجل من صنادید الکوفة و فرسانها، و أقبلت تلک الوحوش الکاسرة مسرعة لحرب القائد العظیم الذی أراد أن یحررهم من الذل و العبودیة و یقیم فیهم عدالة الإسلام و حکم القرآن.
و لما سمع مسلم حوافر الخیل و زعقات الرجال علم أنه قد اتی إلیه، فبادر إلى فرسه فأسرجه و ألجمه و صب علیه درعه و تقلد سیفه، و شکر السیدة طوعة على حسن ضیافتها و رعایتها له.
و اقتحم الجیش علیه الدار فشد علیهم یضربهم بسیفه ففروا منهزمین، ثم عادوا علیه فأخرجهم منها، و انطلق نحوهم فی السکة شاهرا سیفه لم یختلج فی قلبه خوف و لا رعب، و قد أبدى من البطولات النادرة ما لم یشاهد مثله فی جمیع فترات التاریخ، و قد قتل منهم واحدا و أربعین رجلا (1)
و کان من قوته النادرة أن یأخذ الرجل بیده و یرمی به من فوق البیت (2) و لیس فی تأریخ الإنسانیة مثل هذه البطولة، و لا مثل هذه القوة الخارقة.
و جعل أنذال أهل الکوفة یصعدون فوق بیوتهم و یرمونه بالحجارة و قذائف النار (3)
و فشلت جیوش ابن مرجانة من مقاومة البطل العظیم، فقد أشاع فیهم القتل، و طلب محمد بن الأشعث من سیده ابن مرجانة أن یمده بالخیل و الرجال فلامه الطاغیة، و قال: سبحان الله!! بعثناک إلى رجل واحد تأتینا به، فثلم فی أصحابک هذه الثلمة العظیمة (4)
و ثقل ذلک على ابن الأشعث، و قال لابن مرجانة: أتظن أنک أرسلتنی إلى بقال من بقالی الکوفة، أو إلى جرمقانی من جرامقة الحیرة (5) و إنما بعثتنی إلى أسد ضرغام و سیف حسام فی کف بطل همام من آل خیر الأنام..» (6)
و أمده ابن مرجانة بقوى مکثفة فجعل البطل العظیم یحصد رؤوسهم بسیفه، و هو یرتجز:
أقسمت لا أقتل إلا حرا
و إن رأیت الموت شیئا نکرا
أو یخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فاستقرا
کل امرئ یوما یلاقی شرا
أخاف أن أکذب أو أغرا (7)
و لما سمع الخائن العمیل محمد بن الأشعث هذا الشعر من مسلم رفع صوته قائلا: إنک لا تکذب و لا تخدع، إن القوم بنو عمک، و لیسوا بقاتلیک و لا ضاریک.
فلم یحفل به مسلم، و مضى یقاتلهم أعنف القتال و أشده، ففروا منهزمین لایلوون على شیء، و اعتلوا فوق منازلهم یرمونه بالحجارة، فأنکر علیهم مسلم قائلا: «ویلکم ما لکم ترموننی بالحجارة کما ترمى الکفار، و أنا من أهل بیت الأبرار. ویلکم أما ترعون حق رسول الله صلى الله علیه و آله و ذریته..«.
و ضاق بابن الأشعث أمر مسلم فصاح بالجیش ذروه حتى اکلمه فدنا منه، و قال له: یابن عقیل، لا تقتل نفسک أنت آمن، و دمک فی عنقی.
و لم یعن به مسلم، فقد عرفه و عرف قومه أنهم لا وفاء و لا دین لهم، و أجابه: «یابن الأشعث، لا اعطی بیدی أبدا و أنا أقدر على القتال، و الله لا کان ذلک أبدا«.
و حمل مسلم على ابن الأشعث فولى منهزما یطارده الرعب و الخوف، و اشتد العطش بمسلم فجعل یقول: «اللهم إن العطش قد بلغ منی..«.
و تکاثرت علیه الجموع فصاح بهم ابن الأشعث: إن هذا هو العار و الفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع، احملوا علیه بأجمعکم حملة واحدة، فحملوا علیه ضربا بأسیافهم و طعنا برماحهم و ضربه الوغد الأثیم بکر بن حمران ضربة منکرة على شفته العلیا و أسرع السیف إلى الأسفل، و ضربه مسلم ضربة أردته إلى الأرض.
1) الدر النضید: 164.
2) المحاسن و المساوئ: 1: 43.
3) المحاسن و المساوئ: 1: 43. مقتل الحسین علیه السلام / الخوارزمی: 1: 209. الکامل فی التاریخ: 3: 273.
4) الفتوح: 5: 63.
5) الجرامقة: قوم من العجم صاروا إلى الموصل.
6) الفتوح: 5: 93.
7) تاریخ الامم و الملوک: 4: 579. الکامل فی التاریخ: 3: 273.