و انتهى رکب الإمام إلى شراف و فیها عین للماء، فأمر الإمام فتیانه أن یستقوا من الماء و یکثروا منه، ففعلوا ذلک، ثم سارت قافلة الإمام تطوی البیداء، فبادر رجل من أصحاب الإمام فکبر.
فاستغرب الإمام و قال له: «لم کبرت؟«.
ـ رأیت النخل.
و أنکر علیه رجل ممن خبر الطریق و عرفه فقال له: لیس هاهنا نخل، ولکنها أسنة الرماح و آذان الخیل.
و تأملها الإمام الحسین، فقال: «و أنا أرى ذلک«.
و عرف الإمام أنها طلائع الجیش الاموی جاءت لإلقاء القبض علیه، فقال
لأصحابه: «أما لنا ملجأ نلجأ إلیه نجعله فی ظهورنا، و نستقبل القوم من وجه واحد«.
فقال له بعض أصحابه: هذا ذو حسم (1) إلى جنبک تمیل إلیه عن یسارک، فإن سبقت إلیه فهو کما ترید..
و مال رکب الإمام إلیه، فلم یسیروا إلا قلیلا حتى أدرکهم جیش مکثف بقیادة الحر بن یزید الریاحی، و کان ابن مرجانة قد عهد إلیه أن یجوب فی صحراء الجزیرة للتفتیش عن الإمام، و کان عدد ذلک الجیش ألف فارس بقیادة الحر بن یزید الریاحی، و وقفوا قبال الإمام، و کان الوقت شدید الحر، و قد أشرفوا على الهلاک من شدة العطش فرق علیهم الإمام، و غض نظره من أنهم جاؤوا لقتاله و سفک دمه، فأمر أصحابه و أهل بیته أن یسقوهم الماء، و یرشفوا خیولهم و قام أصحاب الإمام فسقوا القوم عن آخرهم، ثم انعطفوا إلى الخیل فجعلوا یملأون القصاص و الطساس فإذا عب فیها ثلاثا أو أربعا أو خمسا عزلت، و سقی الآخر حتى سقوها جمیعا» (2)
لقد تکرم الإمام بإنقاذ هذا الجیش الذی جاء لحربه، و لم تهز هذه الأریحیة و لا هذا النبل نفس هذا الجیش، و لم یتأثروا بهذا الخلق الرفیع، فقد أحاطوا بالفرات فی کربلاء، و حرموا ذریة نبیهم من الماء و لم یسقوهم قطرة حتى توفوا عطاشى.
1) ذو حسم: بضم الحاء و فتح السین جبل هناک.
2) تاریخ الامم و الملوک: 6: 226.