أما أبو الصدیقة الطاهرة زینب علیهاالسلام فهو الإمام أمیرالمؤمنین رائد الحکمة و العدالة فی الإسلام، أخو النبی صلى الله علیه و آله و باب مدینة علمه، و من کان منه بمنزلة هارون من موسى، و هو ـ فیما أجمع علیه الرواة ـ أول من آمن برسول الله صلى الله علیه و آله و اعتنق مبادئه و أهدافه، و قام إلى جانبه کأعظم قوة ضاربة، یحمی دعوته و یصون رسالته و یخمد بسیفه نار الحروب التی أشعلتها قریش لتطفئ نور الله و تقضی على الإسلام فی مهده، فوهب سلام الله علیه روحه لله تعالى، فحصد ببتاره رؤوس الطغاة من القرشیین و أنصارهم المشرکین.
لقد کان الإمام أبرز بطل فی جیوش المسلمین نازل ببسالة و صمود قوى الکفر و الإلحاد، و أنزل بها الخسائر حتى فلت وشلت جمیع فعالیاتها العسکریة و باءت بالهزیمة و الخسران، و لولا جهاد الإمام و کفاحه لما قام الإسلام على سوقه عبل الذراع مفتول الساعد، فما أعظم عائدته على الإسلام و المسلمین.
و کان من عظیم إیمان الإمام و نصرته للإسلام مبیته على فراش النبی صلى الله علیه و آله و وقایته له بنفسه، حینما أجمعت قریش على قتله، و کانت هذه المواساة الرائعة أعظم نصر للإسلام، فقد نجا النبی صلى الله علیه و آله من أخطر مؤامرة دبرت لاغتیاله، فقد فشلت،
و أنقذ الله تعالى نبیه من تلک الوحوش الکاسرة التی أرادت أن تطفئ نور الإسلام و تعید الظلام للأرض.
لقد صحب الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام منذ نعومة أظفاره النبی صلى الله علیه و آله، و تخلق بطباعه و أفکاره، و تغذى بحکمه و علومه، فکان باب مدینة علمه، و قد أثرت عنه من العلوم ما یبهر العقول، یقول العقاد: إنه فتح ما یربو على ثلاثین علما لم تکن معروفة قبله کعلم الکلام و الفلسفة و القضاء و الحساب و غیرها، و هو القائل:
»سلونی قبل أن تفقدونی«، و لم یفه أحد بمثل هذه الکلمة غیره.
و قد أخبر عن علمه و إحاطته بأسرار الکون و الفضاء، فقال: «سلونی عن طرق السماء فإنی أعرف بها من طرق الأرض«.
کما تحدث عن درایته بما احتوت علیه الکتب السماویة من أحکام قائلا: «لو ثنیت لی الوسادة لأفتیت أهل الإنجیل بإنجیلهم، و أهل الزبور بزبورهم، و أهل الفرقان بفرقانهم، و أهل القرآن بقرآنهم«.
لقد کان الإمام علیه السلام أعظم عملاق فی المیادین العلمیة عرفته الإنسانیة بعد النبی صلى الله علیه و آله، و یدل على طاقاته العلمیة الهائلة کتابه نهج البلاغة الذی هو من أعظم ما تملکه الإنسانیة من تراث بعد القرآن الکریم.
و من مظاهر شخصیة الإمام علیه السلام زهده فی الدنیا و عدم احتفائه بأی زینة من زین الحیاة، فقد تقلد الحکم و تشرفت الدولة الإسلامیة بقیادته، فزهد فی جمیع مظاهر السلطة، و جعل الحکم وسیلة لإقامة الحق و العدل و نشر المساواة بین الناس، و لم یستخدم السلطة لتنفیذ رغباته، و الظفر بالثراء العریض، و من المقطوع به إنه لیس فی تأریخ الشرق العربی و غیره حاکم کالإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، قد عنى بالصالح العام، و تجرد عن کل منفعة شخصیة له.
و هو القائل لابن عباس، و کان یصلح نعله الذی هو من لیف:
»یا بن عباس ما قیمة هذا النعل؟«.
– لا قیمة له یا أمیرالمؤمنین!
»و الله لهی أحب إلی من إمرتکم، إلا أن أقیم حقا، أو أدفع باطلا«.
لقد تبنى العدل الخالص و الحق المحض فی جمیع مراحل حکمه، فالقریب و البعید عنده سواء، و القوی عنده ضعیف حتى یأخذ منه الحق، و الضعیف عنده قوی حتى یأخذ له بحقه، و قد أوجد فی أیام خلافته وعیا سیاسیا أصیلا و هو التمرد على الظلم و مقارعة الجبابرة و الطغاة.
و کان أبرز من تغذى بهذا الوعی ولده أبو الأحرار الإمام الحسین علیه السلام و بطلة الإسلام ابنته سیدة النساء زینب علیهاالسلام، و کوکبة من مشاهیر أصحابه کحجر بن عدی و عمرو بن الحمق الخزاعی و میثم التمار و غیرهم من بناة المجد الإسلامی الذین ثاروا على الظالمین.
و على أی حال، فهذا العملاق العظیم هو أبو الصدیقة الطاهرة زینب علیهاالسلام، فقد غذاها بمثله و مکوناته النفسیة، و أفرغ علیها أشعة من روحه الثائرة على الظلم و الطغیان، فکانت تحکیه فی انطباعاته و اتجاهاته، فقارعت الظالمین، و ناجزت الطغاة المستبدین، و أذلت الجبابرة المتکبرین، و ألحقت بهم الخزی و العار.
لقد وقفت حفیدة الرسول صلى الله علیه و آله، و مفخرة الإسلام إلى جانب أخیها أبی الأحرار حینما فجر ثورته الکبرى التی هی أعظم ثورة إصلاحیة عرفها التاریخ الإنسانی، و قد شابهت بذلک أباها رائد العدالة الاجتماعیة حینما وقف إلى جانب جدها الرسول الأعظم صلى الله علیه و آله حینما اعلن دعوته الخالدة الهادفة إلى تحریر الفکر البشری من عوامل الانحطاط و التأخر، و إنارته بالعلوم و العرفان و دفعه إلى إقامة مجتمع متوازن
فی سلوکه و إرادته.
لقد کانت هذه السیدة العظیمة فی سیرتها و سلوکها من أشبه الناس بأبیها الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، فقد تبنت بصورة إیجابیة جمیع أهدافه و مخططاته و مواقفه التی منها نصرته للإسلام فی أیام محنته و غربته، و کذلک هذه السیدة العملاقة نصرت الإسلام حینما عاد غریبا فی ظل الحکم الاموی الذی استهدف قلع جذور الإسلام ولف لوائه، و إعادة الحیاة الجاهلیة بأوثانها و أصنامها، ولکنها مع أخیها سلام الله علیها قد أفسدت مخططات الامویین، و أعادت للإسلام نضارته و مجده.