و أفلت دولة الحق التی تبنت حقوق الإنسان و قضایاه المصیریة، و واکبت العدل الاجتماعی و العدل السیاسی، و أقامت صروح الحق و معاقل الشرف و الفضیلة لکل إنسان.
و لم یعهد الشرق فی جمیع مراحل تأریخه حکما نزیها و عادلا کحکم الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام الذی لم یخضع فی جمیع فتراته لأیة عاطفة لا تتصل بالحق، فقد تجرد حکمه عن کل نزعة یؤول أمرها إلى التراب..
و قد نقمت علیه أشد ما یکون الانتقام الرأسمالیة القرشیة، فقد خافت على مصالحها و خافت على أموالها التی استولت علیها بغیر حق، فوضعت الحواجز و السدود أمام مخططاته السیاسیة الهادفة إلى الإصلاح الشامل، و اتهمته بالتآمر على قتل عثمان عمید الاسرة الامویة، و اتخذت من قتله ورقة رابحة لفتح أبواب الحرب علیه، فکانت حرب الجمل و صفین و النهروان.
و قد انهارت حکومة الإمام، و بقی علیه السلام فی أرض الکوفة یصعد زفراته و آهاته، و قد استفحل شر معاویة و قوی سلطانه و اتسع نفوذه، و زادت قواته العسکریة و تسلحت بجمیع المعدات الحربیة فی ذلک العصر، و أخذ معاویة یشن الغارات على معظم الأقالیم الإسلامیة الخاضعة لحکم الإمام، فکانت جیوشه تقتل و تنهب الأموال، و ذلک لإسقاط هیبة حکومة الإمام و أنها لا تقدر على حمایة الأمن العام للمواطنین، و قد انتهت الغارات إلى الکوفة، و الإمام یدعو جیشه لحمایة البلاد و صد العدوان الغادر على الناس فلم یستجیبوا له، فقد خلدوا إلى الراحة و سأموا الحرب و شاعت فی أوساطهم أوبئة الخوف من معاویة، و أخذ الإمام الممتحن یناجی ربه و یدعوه أن ینقذه من ذلک المجتمع الذی لم یع مبادئه و سیاسته الهادفة إلى نشر العدل و إشاعة المساواة بین الناس.
و توالت المحن الشاقة یتبع بعضها بعضا على الإمام، و کان من أشقها علیه الغارات المتصلة التی تشنها قوات معاویة على أطراف البلاد الإسلامیة، و ترویعها للنساء و الأطفال و العجز، و الإمام مسؤول عن توفیر الأمن لهم و حمایتهم من کل أذى أو مکروه، ولکنه لم یجد سبیلا لذلک لأن جیشه قد تمرد علیه، و سرت فیه أوبئة الخوف و أفکار الخوارج مما جعلته أعصابا رخوة لا حراک فیها و لا حیاة.
و کان من بین الذین اعتنقوا مبادئ الخوارج الأثیم المجرم عبدالرحمن بن ملجم، فنزح مع عصابة من الخوارج إلى مکة و عقدوا فیها مؤتمرا عرضوا فیه ما لاقاه حزبهم من القتل و التنکیل، و ما منی به العالم الإسلامی من الفتن و الخطوب، و عزوا ذلک إلى الإمام و معاویة و ابن العاص فصمموا على اغتیالهم فقال ابن ملجم: أنا أکفیکم علی بن أبی طالب.
و قال عمرو بن بکیر التمیمی: أنا أکفیکم عمرو بن العاص.
و ضمن الحجاج بن عبدالله الصریمی اغتیال معاویة.
و اتفقوا على یوم معین و هو یوم الثامن عشر من شهر رمضان سنة أربعین من الهجرة، کما عینوا ساعة الاغتیال و هی ساعة خروجهم إلى صلاة الصبح، و قفل ابن ملجم إلى الکوفة، و هو یحمل معه الشر و الشقاء لجمیع سکان الأرض، و التقى بقطام و کان هائما فی حبها، و کانت تعتنق فکرة الخوارج فقد قتل أبوها و أخوها فی واقعة النهروان، و عرض علیها الزواج، فشرطت علیه مهرا و هو ثلاثة آلاف درهم، و عبد وقینة، و قتل الإمام أمیرالمؤمنین علیه السلام، و اتفقا على هذا المهر المشؤوم.
و فیه یقول الفرزدق (المتوفی سنة 110 هـ(:
و لم أر مهرا ساقه ذو سماحة
کمهر قطام من فصـیح و أعجم
ثلاثة آلاف و عبد وقینة
و ضرب علی بالحسام المسمم
فلامهر أغلى من علی و إن غلى
و لا فتک إلا دون فتک ابن ملجم (1)
و لما أطلت لیلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارک اضطرب الإمام، و جعل یمشی فی صحن الدار و هو محزون النفس خائر القوى، و هو ینظر إلى الکواکب و یتأمل فیها یزداد قلقه و هو یقول:
»ما کذبت و لا کذبت، إنها اللیلة التی وعدت فیها«.
و صادفت تلک اللیلة لیلة الجمعة، و قد أحیاها بالصلاة و تلاوة کتاب الله، و لما عزم على الخروج إلى الجامع لیؤدی الصلاة صاحت فی وجهه وز اهدیت إلى الإمام الحسن، فتنبأ عن وقوع الحادث العظیم قائلا:
»لا حول و لا قوة إلا بالله، صوائح تتبعها نوائح» (2)
و أقبل الإمام على الباب لیفتحه فعسر علیه، لأنها کانت من جذوع النخل لا من الساج فاقتلعها فانحل إزاره فشده و هو یقول:
اشدد حیازیمک للموت
فإن الموت لاقیکا
و لا تجزع من الموت
إذا حل بنادیکا (3)
و خرج الإمام فلما انتهى إلى بیت الله جعل على عادته یوقظ الناس لصلاة الصبح، و شرع الإمام فی أداء الصلاة، فلما استوى من السجدة الاولى هوى علیه الوغد الأثیم ابن ملجم بسیفه و هو یهتف بشعار الخوارج: «الحکم لله لا لک«.
و ضرب الإمام على رأسه فقد جبهته الشریفة، و انتهت الضربة القاسیة إلى دماغه
المقدس الذی ما فکر إلا فی إقامة العدل و تدمیر الظلم و إسعاد البؤساء و الفقراء.
و لما أحس الإمام بلذع السیف رفع صوته قائلا: «فزت و رب الکعبة..«.
لقد فزت یا أمام المتقین و یعسوب الدین، فأی فوز أعظم من فوزک، لقد أقمت الإسلام بسیفک، و جاهدت فی سبیل الله کأعظم ما یکون الجهاد، و حطمت الشرک و أفکار الجاهلیة و تقالیدها، و رفعت کلمة الله مع ابن عمک رسول الله صلى الله علیه و آله عالیة فی الأرض.
لقد فزت أیها الإمام العظیم، فأنت أول حاکم فی دنیا الإسلام طلقت الدنیا ثلاثا فلم تغرک مباهجها، و لم تخدعک السلطة، فلم تبن لک بیتا، و لم تدخر لعیالک و أبنائک شیئا من حطام الدنیا.
لقد فزت فقد کانت نهایتک المشرفة فی أقدس بیت من بیوت الله، و فی أعظم شهر من شهور الله، فبدایة حیاتک فی الکعبة و نهایتها فی هذا الجامع العظیم، و لسانک یلهج بذکر الله.
و لما وقع الإمام صریعا فی محرابه هتف معرفا بقاتله قائلا:
»قتلنی ابن الیهودیة عبدالرحمن بن ملجم فلا یفوتنکم..«.
و هرع الناس من کل جانب قد أذهلهم الخطب و أضناهم المصاب، و بلغ بهم الحزن إلى قرار سحیق، فوجدوا الإمام صریعا فی محرابه فأخذوا یندبونه بذوب أرواحهم و لم یستطع الإمام الصلاة بالناس، فصلى و هو جالس والدم ینزف منه، و أمر ولده الإمام الحسن فصلى بالناس، و حمل الإمام إلى منزله، و القی القبض على الوغد ابن ملجم فجیء به مخفورا إلى الإمام علیه السلام فقال له بصوت خافت:
»لقد جئت شیئا إدا، و أمرا عظیما، ألم أشفق علیک و اقدمک على غیرک فی العطاء فلماذا تجازینی بهذا الجزاء؟«.
و التفت الإمام إلى ولده الحسن فأوصاه بالبر و الإحسان بابن ملجم قائلا:
»یا بنی، ارفق بأسیرک و ارحمه، و اشفق علیه..«.
فبهر الحسن و قال: «یا أبتاه، قتلک هذا اللعین، و فجعنا بک، و أنت تأمرنا بالرفق به!«.
فأجابه الإمام بما انطوت علیه نفسه من المثل العلیا قائلا:
»یا بنی، نحن أهل بیت الرحمة و المغفرة، أطعمه مما تأکل، واسقه مما تشرب، فإن أنا مت فاقتص منه بأن تقتله، و لا تمثل بالرجل فإنی سمعت جدک رسول الله صلى الله علیه و آله یقول: إیاکم و المثلة، ولو بالکلب العقور، و إن أنا عشت فأعلم ما أفعله به، و أنا أولى بالعفو، فنحن أهل بیت لا نزداد على المذنب إلینا إلا عفوا و کرما..«.
أی نفس ملائکیة هذه النفس التی توصی بالبر و الإحسان لقاتلها.
1) المستدرک علی الصحیحین: 3: 143.
2) مروج الذهب: 3: 291.
3) حیاة الإمام الحسن بن علی علیهماالسلام: 1: 557.