و عرف ابن زیاد أن أهم أعضاء الثورة هانئ بن عروة الزعیم الکبیر، و فی بیته مسلم بن عقیل، فأرسل وفدا خلفه کان منهم حسان بن أسماء بن خارجة زعیم فزارة، و محمد بن الأشعث زعیم کندة، و عمرو بن الحجاج و هو من زعماء مذحج، و لما التقوا به قالوا له: ما یمنعک من لقاء الأمیر فإنه قد ذکرک و قال: لو علم أنه شاک لعدته…
فاعتذر لهم، و قال: الشکوى تمنعنی، فلم یقنعوا بذلک، و أخذوا یلحون علیه فی زیارته، فاستجاب لهم على کره و سار معهم.
فلما کان قریبا من القصر أحست نفسه بالشر، فقال لحسان بن أسماء: یابن الأخ، إنی و الله لخائف من هذا الرجل فما ترى؟
فقال له حسان: یا عم، و الله ما أتخوف علیک شیئا، و لم تجعل على نفسک سبیلا، و أخذ القوم یلحون علیه بمقابلة ابن مرجانة، فاستجاب لهم.
و لما مثل أمامه استقبله ابن مرجانة بعنف، و قال له: أتتک بخائن رجلاه.
و ذعر هانئ فقال له: ما ذاک أیها الأمیر؟
فصاح به الطاغیة: إیه یا هانئ ما هذه الأمور التی تتربص فی دارک لأمیرالمؤمنین و عامة المسلمین، جئت بمسلم بن عقیل فأدخلته دارک، و جمعت له السلاح و الرجال فی الدور حولک، و ظننت أن ذلک یخفى علی.
فأنکر هانئ و قال: ما فعلت ذلک، و ما مسلم عندی.
ـ بلى، قد فعلت.
و طال النزاع و احتدم الجدال بینهما، فرأى ابن زیاد أن یحسم النزاع فدعا الجاسوس معقلا، فلما مثل أمامه قال لهانئ: أتعرف هذا؟
ـ نعم.
و أسقط ما فی یدی هانئ، و أطرق برأسه إلى الأرض، ولکن سرعان ما سیطر على الموقف.
فقال لابن مرجانة: قد کان الذی بلغک، و لن أضیع یدک عندی (1) تشخص لأهل الشام أنت و أهل بیتک سالمین بأموالکم فإنه جاء حق من هو أحق من حقک و حق صاحبک (2)
و ثار ابن زیاد فرفع صوته: و الله لا تفارقنی حتى تأتینی به ـ أی بمسلم ـ.
و سخر منه هانئ، ورد علیه: لا آتیک بضیفی أبدا.
و طال الجدال بین هانئ و بین ابن مرجانة، فانبرى مسلم بن عمر الباهلی و هو من خدام السلطة إلى ابن زیاد طالبا منه أن یختلی بهانئ لیقنعه، فسمح له بذلک فاختلى به، و قال له: یا هانئ، انشدک الله أن لا تقتل نفسک، و تدخل البلاء على قومک، إن هذا الرجل ـ یعنی مسلماـ ابن عم القوم، و لیسوا بقاتلیه، و لا ضائریه، فادفعه إلیه، فلیس علیک بذلک مخزاة و لا منقصة، إنما تدفعه إلى السلطان.
و لم یحفل هانئ بهذا المنطق الرخیص فهو على علم لا یخامره شک أن ابن زیاد لو ظفر بمسلم لقطعه إربا.
و من الطبیعی أن ذلک یعود بالعار و الخزی على هانئ، فکیف یسلم وافد آل محمد إلى هذا الإنسان الممسوخ.
قال هانئ: بلى و الله علی فی ذلک أعظم العار أن یکون مسلم فی جواری و ضیفی و هو رسول ابن بنت رسول الله صلى الله علیه و آله و أنا حی صحیح الساعدین، کثیر الأعوان، و الله لو لم أکن إلا وحدی لما سلمته أبدا.
و حفل کلام هانئ بمنطق الأحرار الذین و هبوا حیاتهم للمثل العلیا و القیم الکریمة..
و لما یئس الباهلی من هانئ قال لابن زیاد: أیها الأمیر، قد أبى أن یسلم مسلما أو یقتل (3)
و التفت الطاغیة إلى هانئ فصاح به: أتأتینی به أو لأضربن عنقک.
فلم یعبأ به هانئ، و قال: إذن تکثر البارقة حولک (4)
فثار ابن مرجانة و قال: والهفا علیک أبالبارقة تخوفنی.
و صاح بغلامه مهران و قال له: خذه، فأخذ بضفیرتی هانئ، و أخذ ابن زیاد القضیب فاستعرض به وجهه، و ضربه ضربا قاسیا حتى کسر أنفه، و نثر لحم خدیه و جبینه على لحیته حتى تحطم القضیب، و سالت الدماء على ثیابه، و عمد هانئ إلى قائم سیف شرطی محاولا اختطافه لیدافع به عن نفسه فمنعه منه.
فصاح به ابن زیاد: احروری أحللت بنفسک، و حل لنا قتلک.
ثم أمر ابن زیاد باعتقاله فی أحد بیوت القصر (1)
و انتهى خبره إلى اسرته من مذحج، و هی من أکثر قبائل الکوفة عددا، إلا أنها لم تکن متماسکة، و قد شاعت الانتهازیة فی جمیع أفرادها.
و على أی حال، فقد سارعت مذحج بقیادة العمیل الخائن عمرو بن الحجاج و قد رفع عقیرته لتسمعه السلطة قائلا: أنا عمرو بن الحجاج و هذه فرسان مذحج و وجوهها، لم نخلع طاعة و لم نفارق جماعة.
و لم یعن به ابن زیاد و لا بقومه، فالتفت إلى شریح القاضی فقال له: ادخل على صاحبهم فانظر إلیه ثم اخرج إلیهم فأعلمهم أنه حی.
و خرج شریح فدخل على هانئ فلما نظر إلیه صاح مستجیرا: یا للمسلمین، أهلکت عشیرتی، أین أهل الدین؟ أین أهل المصر؟
و التفت هانئ إلى شریح فقال له: یا شریح، إنی لأظنها أصوات مذحج و شیعتی من المسلمین، إنه إن دخل علی عشرة أنفر أنقذونی.
و لم یحفل شریح بکلام هانئ، و إنما مضى منفذا لأمر سیده ابن مرجانة فخاطب مذحج قائلا: قد نظرت إلى صاحبکم و إنه حی لم یقتل.
و بادر عمرو بن الحجاج قائلا: إذا لم یقتل فالحمد لله (1)
و ولوا منهزمین کأنما اتیح لهم الخلاص من سجن، و قد صحبوا معهم الخزی و العار، و انطلقت الألسنة بذمهم، و قد ذمهم شاعر أخفى اسمه حذرا من بطش الامویین و نقمتهم قال:
فإن کنت لا تدرین ما الموت فانظری
إلى هانی فی السوق و ابن عقیل
إلى بطل قد هشم السیف وجهه
و آخر یهوى مـن طمار قتیل (5)
أصابهما فرخ البغی فأصبـحا
أحادیث من یسری بکل سبیل
ترى جسدا قد غیر الموت لونه
و نضح دم قد سال کل مسیل
فتى کان أحیى من فـتاة حییة
و أقطع من ذی شفرتین صقیل
أیرکب أسماء الهمالیج آمنا
و قـد طلبته مذحج بذحول (6)
تطوف حوالیه مراد و کلهم
على رقبة من سائل و مسول
فإن أنتم لم تثأروا بـأخیکم
فکونوا بغایا أرضیت بقلیل (7)
لقد تنکرت مذحج لزعیمها الکبیر فلم تف له حقوقه و معروفه الذی أسداه علیها، و ترکته أسیرا بید ابن مرجانة یمعن فی إرهاقه و التنکیل به حتى أعدمه فی وضح النهار بمرأى و مسمع منهم.
1) الکامل فی التاریخ: 3: 271.
2) مروج الذهب: 3: 7.
3) الفتوح: 5: 47.
4) البارقة: السیوف.
5) الطمار: اسم لغرفة شیدت فوق قصر الإمارة و فی أعلاها قتل مسلم.
6) الهمالیج: جمع هملاج، نوع من البرذون.
7) مروج الذهب: 2: 70، و الشاعر مجهول.